ننشر فيما يلي ترجمة عربية لنصين نشرا في لوموند أحدهما مقابلة مع عزمي بشارة والثانية بورتريه كتبه الصحفي الذي أجرى المقابلة.
لا نتحمل المسؤولية عن المادتين المنشورتين في الصحيفة المرموقة. فنص المقابلة المنشور انتقى أقساما من بعض الإجابات على بعض الأسئلة. والبورتريه يلخص انطباعات الصحفي الذي أراد فيما يبدو أن يبعد عن نفسه أي شبهة بالانحياز، ولكنه قام بواجبه كصحفي على قدر استطاعته. ومع ذلك ننشر النصين كاملين لإتاحتهما للقارئ العربي. (أجرى المقابلة بنجمان بارت. تمّ النشر في 16/11/2018. ترجمها إلى العربية مراد دياني).
____________________________________
منذ أن وصلت إلى قطر، رفضت الطلبات المقدّمة لإجراء مقابلاتٍ من الصحافة الغربية والإسرائيلية. ما الذي يجعلك تكسر هذا الصمت؟
رحيلي من فلسطين كان فرصةً لتكريس نفسي للكتابة والبحث. من وجهة النظر هذه، كان نفيي مُثمرًا، ولكنني قلقٌ بشأن ظاهرة جديدة في الغرب: تهميش القضية الفلسطينية وقضية حقوق الإنسان في العالم العربي. فالرأي العام قد أضحى يُولي الأولوية لاستقرار الشرق الأوسط، وهو ما يعدّ بمثابة الخضوع للاستبداد.
كيف نُفسّر فشل الثورات العربية؟
هناك عدّة عوامل. أوّلها عنف الأنظمة القائمة. ففي سورية، وصل القمع إلى مستوى غير مسبوق في التاريخ. ولا أعرف شعبًا دفع ثمنًا باهظًا بهذا القدر للحرية مثل الشعب السوري. فالعفوية بدون تنظيم، ودون اتفاقٍ على الاتجاه الذي ينبغي اتباعه، قد أدّتا إلى الفوضى. والثورتان السوفييتية والإيرانية هما مثالان للثورة في القرن العشرين حيث كان لدى أولئك الذين قادوهما نموذجًا في أذهانهم. أما في عام 2011، فإنّ الجماهير قد نزلت إلى الشوارع بشكلٍ عفوي، دون نموذجٍ أو بديلٍ في أذهانهم. وعندما بدأوا يطالبون بسقوط النظام، فإنّ تعبئتهم تحوّلت إلى ثورة. وكانت المشكلة الكبرى الأخرى هي عدم وجود ثقافة ديمقراطية للنخب السياسية القائمة التي استعادت لحسابها هذه الحركات، وعدم قدرتها على إدارة خلافاتها والتوصل إلى تسويات.
ماذا عن العوامل الدولية؟
لقد أدّى المحور الرجعي العربي، والذي يتألّف بشكلٍ رئيس من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، دورًا. وباستثناء الحالة السورية، حيث دعموا التمرّد لأسبابَ جيوستراتيجية وطائفية تتعلق بإيران، كانت هذه الأنظمة مرعوبةً من الثورات. وقد دعموا الثورة المضادة ومارسوا الضغط (lobbying) في الغرب، وأنفقوا الأموال التعبئة وسائل الإعلام، والمثقفين، وما إلى ذلك.
كيف تُقيّم دور الولايات المتحدة؟
لقد أدّت سطحية أوباما، وهو الليبرالي في الظاهر، ولكن المتضامن عمليا مع المستبدّين خارج الولايات المتحدة، دورًا مهمًا. ففي تونس، لم يقدم الرئيس الأمريكي أيّ مساهمةٍ إيجابية. وفي مصر، تردّد طويلًا. قبل أن يُقنعه أخيرًا مستشاروه الشباب بالذهاب في اتجاه التاريخ. وفي سورية، لم يرَ أبدًا بديلًا للأسد. وقد قاد هوسُه بالانفراج مع إيران الشعب السوري وحقوقه إلى الإهمال. في حين أنه إذا كان بشار الأسد قد واجه تهديدات ملموسة، فإنّ النظام كان سينهار.
في آب/ أغسطس 2013، بعد القصف بغاز السارين بالقرب من دمشق، هددت الولايات المتحدة بتوجيه ضربات، قبل أن تتراجع عن ذلك. كنت لصالح هذه الضربات؟
من السهل للغاية أن ننساق وراء اختزال هذا السؤال في اختيارٍ بين تدخلٍّ على غرار تدخّل حلف الناتو في ليبيا، وعدم التدخل على الإطلاق. فقبل التفكير في قصف مواقع النظام، كان بوسع الولايات المتحدة أن تفعل الكثير من الأشياء، مثل تسليم صواريخ أرض-جو للمعارضة. لم يكن الأمر يتعلّق بإسقاط النظام بقدر ما كان يتعلّق بحماية السكان المدنيين. لقد كان هذا واجبًا على المجتمع الدولي.
ما هي الأهمية التي ينبغي أن تُمنح للانقسام السني-الشيعي في مأزق الثورة السورية؟
على خلاف الفكرة السائدة في الغرب، أعتقد أنّ الطائفية هي التي تُنتج الطوائف وليس العكس. فاختراع الطوائف عبر-الوطنية هو نتاج إفلاس الدول الحديثة في سورية والعراق وأماكن أخرى. نتاج فشلهم في بناء أمة على أساس المواطنية. فالديكتاتوريتان السورية والعراقية اللتان لم تكونوا دينيتان قد وظّفتا علاقات القرابة، أو الهويات الريفية أو القَبَلية، لإثارة ولاءات. وقد أفلتت هذه الدينامية عن سيطرتهما، لتصبح هذه الأنظمة طائفيةً بفعالية.
لقد قابلت بشار الأسد عدة مرات في العقد الأول من الألفية الثالثة. وكنت حينها تدعم خطابه الإصلاحي. فهل تندم على ذلك؟
ذهبت إلى سورية كفلسطيني من إسرائيل، معزولٌ عن العالم العربي. وكنت أنوي كسر الأبوية الإسرائيلية التي تتمثّل في القول إننا لا يمكننا أن نتواصل مع جيراننا العرب إلّا عقب تطبيع العلاقات بين هذه البلدان وإسرائيل. لم أكن في مهمة لبناء الديمقراطية في سورية. وحتى عام 2007، خلال لقاءاتي مع بشار الأسد، لفتت انتباهه إلى المشاكل الداخلية في سورية: السجناء، والفساد، وانتهاكات حقوق الإنسان. وقد حصلت على إطلاقه سراح سجناء فلسطينيين. ولكن بعد تجاوز أزمة اغتيال رفيق الحريري في عام 2005، أصبح متغطرسًا للغاية. اعتقدت أنه كان إصلاحيًا، وكنت مخطئًا. فهمتُ أنه لم يكن مختلفًا عن الجيل الثاني من الزعماء العرب، الذين يقدّمون أنفسهم كمصلحين ليكتسبوا الشرعية، والذين تقتصر ليبراليتهم على استيراد نمط الحياة على الطريقة الغربية الذي يحبونه، والذين ليسوا أقلّ ديكتاتوريةً من أسلافهم.
بالنسبة إلى مثقفٍ عربي يدعو إلى الديمقراطية، قد يبدو الاستقرار في نظام ملكي-نفطي في الخليج أمرًا مفارقًا...
لقد نشرت نحو عشرة كتبٍ منذ وصولي إلى الدوحة، ولم تتدخل السلطات أبدًا في أعمالي. أشعر بأنني مستقل أكثر مما كنت عليه عندما كنت في فلسطين. إنّ هذا الجدل لا معنى له. فالناس لا يمكنهم أن يتصوّروا أنه يمكن للمرء أن يكون في بلدٍ عربي وأن يظلّ ملتزمًا بمبادئه.
تُدير مركزًا للأبحاث (المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية) بتمويلٍ من السلطات القطرية. ما هي استقلاليتكم؟
لقد رغبت في بناء جيلٍ جديد من الباحثين، ونشر أفكار التنوير. ومن أجل ذلك، تلزم مؤسًسات، وبالتالي أموال، لأنّ الأبحاث في العلوم الاجتماعية لا تعيل نفسها، فهي لا تدر دخلا. ففي إسرائيل، كما في فرنسا والولايات المتحدة، لا تعمل مراكز الأبحاث في العلوم الاجتماعية بدون دعمٍ مالي، سواء من الدولة أو من المؤسّسات الخاصة أو من أوساط الأعمال. المركز العربي هو أكثر استقلاليةً من العديد منها. فالاختبار ليس هو من أين نكتب، ولكن ماذا نكتب. في اليوم الذي تمنعني فيه قطر من العمل من أجل الديمقراطية، سأغادر. أما في الوقت الحالي، يسعدني وجود مثل هذا الملاذ داخل العالم العربي. هل هناك مكانٌ آخر في المنطقة لا يستطيع الضغط السعودي ولا الإيراني ولا الإسرائيلي الوصول إليه؟
ما هو دورك إلى جنب الأمير تميم بن حمد آل ثاني؟ وسائل الإعلام الإماراتية والسعودية تقدّمك بوصفك كبير مستشاريه في الظلّ (éminence grise)...
أنا أقلّ من مستشار وأكثر من مستشار. ليست لدي وظيفة رسمية. أنا مثقف وهناك صداقةٌ وثقةٌ بيننا. عندما أُسأل عن رأيي، أعطيه. وعندما لا أكون موافقًا، أقول ذلك. أما بالنسبة إلى مزاعم السعوديين والإماراتيين، فهذا أمرٌ لا بأس به (fair enough). يكفي أنهم ليس باستطاعتهم سجننا وتعذيبنا.
يُنسب لك دورٌ في تشكيل المعارضة لبشار الأسد. وقد أنشأت أيضًا وسائلَ إعلام ومؤسسات فكرية (think tank) مناصرة للثوّار.
لم يكن لي دورٌ في إنشاء المجلس الوطني السوري. لقد نظم المركز العربي ندوةً حول مستقبل سورية، جمعت بين مثقفين ومعارضين من جميع الآفاق، لكن النقاشات لم تقُد إلى أيّة نتيجة. لقد ساعدتهم على الاجتماع، هذا كلّ شيء. أما بالنسبة إلى المؤسّسات الفكرية والإعلامية التي تتحدث بها، فقد قمت بتأسيسها للتأثير في الرأي العام والدفاع عن قِيَم الثورات. لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بمغادرة المشهد عندما تحترق بلداننا.
هل يمكن أن تدعو إلى إقامة ديمقراطية في قطر؟
لا، لا أستطيع. أنا منفيّ سياسي. وتغيير النظام ليس جزءًا من جدول أعمالي. السؤال الحقيقي هو التالي: كيف سأتصرف إذا نزل القطريون إلى الشارع ودعوا إلى الديمقراطية؟ أعتقد أنني سأدعمهم. أما الآن فالوضع خاص. فالقطريون هم أقلية، ولديهم مستوى معيشة مرتفع. لديهم مطالبات بالطبع: مشاركة أكبر، وتوزيع أفضل للثروة. ولكنها ليست مصر أو تونس أو المغرب. السؤال الرئيس الذي يُطرح هنا ليس هو التحول إلى ديمقراطية.
تتودّد السلطات في الإمارة إلى اللّوبيات الأمريكية المؤيدة لإسرائيل مع حظرها في الآن ذاته بثّ فيلم وثائقي على قناة الجزيرة مخصّص لقوة هذا اللوبي في الولايات المتحدة. هل هذا شيءٌ تنتقده؟
نحن ننتقده. بالنسبة إلى قطر، يُنظر إلى المسألة على أنها مسألة بقاء. وعندما اندلعت أزمة الخليج في حزيران/ يونيو 2017، كان القادة المحليون خائفين للغاية من أنّ جيرانهم سيسعون للإطاحة بالنظام. وكان التقرّب من إسرائيل أداةً بالنسبة إليهم، وسيلةً لجذب الدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي لحماية أنفسهم.
الحركة الوطنية الفلسطينية هي في أزمة منذ فترة طويلة. كيف يمكن أن يُعاد إحياؤها؟
هناك ثلاث أولويات. أولًا، يجب إعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية، أي إعادة بناء بيت مشترك للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والشتات. بعد ذلك، ينبغي تحديد خصوصيات المعركة ضد الاحتلال، والسعي إلى تحقيق انتصارات صغيرة عبر النضال بدايةً، مثل انتصارات المقدسيين في مسألة البوابات [في تموز/ يوليو 2017، حصل الفلسطينيون في المدينة المقدسة على إزالة أجهزة الكشف عن المعادن المثبتة عند مداخل باحة المسجد الأقصى]. وأخيرًا، من الضروري إخضاع فتح وحماس لضغطٍ شعبي بحيث يُجبرهما على التصالح.
على الرغم من الصعوبات التي يجتازها العالم العربي، تبقى متفائلًا؟
لقد زرعت الثورات بذور التغيير. وسوف يأتي التغيير، من خلال الإصلاحات، أو الثورة، أو الأزمة الاقتصادية، أو الحرب. وستكون البدائل جاهزة، وستكون هناك سذاجةٌ أقلّ. ما زلت أؤمن بانبعاث العالم العربي. وفريق الباحثين من جميع أنحاء العالم العربي الذين جمعتهم في الدوحة والذين يمارسون قوميةً عربية منفتحة وديمقراطية، هم أولى الثمار.
هل تمرّ النهضة الفكرية عبر العودة إلى الأخلاق؟
في الحياة الفكرية العربية، السؤال الأخلاقي هو في أزمة. فكيف يمكن للمرء أن يدّعي أنه من اليسار، ويقول عن نفسه أنه ثوري، ويدعم بشار الأسد؟ لماذا يتباهى المرء بشرب الويسكي كدليل علمانية، إذا كان متسامحًا مع التعذيب في السجون السورية؟ هناك ميل لدى المثقفين العرب إلى استبدال الأخلاق بالحساب العقلاني. ولتحديد موقعهم، يلجؤون إلى قوانين التاريخ، وإلى حسابات يُزعم أنها عقلانية –هل سنربح أم سنخسر؟–، وكلّ ذلك مختلطٌ باعتباراتٍ هوياتية. وهذا ينطبق على سورية ومصر. إذا كنت معارضًا للإسلاميين، فهل عليّ لذلك أن أؤيّد انقلاب المشير عبد الفتاح السيسي؟ أنا كانطي في الفلسفة الأخلاقية. وأفعل ما عليّ فعله دون القلق بشأن النتيجة. هكذا يكون المرء كائنًا أخلاقيًا.
________________________________________
إنه المثقف الذي يحلو لزعماء دول الشرق الأوسط كرهه. وقد تمّ تقديمه كمرشدٍ روحي (guru) للمعارضة السورية، وكمرشدٍ ناصحٍ (mentor) للثوار الليبيين، وكمتحّكمٍ خلف الستار (puppeteer) في الثوّار العرب. واليوم يوصف بأنه المتكلّم من الباطن (ventriloquist) لأمير الدوحة، والرجل الذي يزرع الفتنة بين ممالك الخليج التي هي بصدد التقارب مع إسرائيل، والذي يعوق تشكيل جبهة معادية لإيران.
بالنسبة إلى مناصري الاستبداد، عزمي بشارة، 62 سنة، وهو فيلسوفٌ ونائبٌ عربي إسرائيلي سابق هو اليوم في المنفى في قطر، هو جورج سوروس العربي. فعلى غرار هذا الملياردير اليهودي الأمريكي من أصل مجري الذي يتهمه الشعبويون بزعزعة الاستقرار، تحت غطاء العمل الخيري، للأنظمة في أوروبا الشرقية وفي القوقاز، إنه مصدر إزعاج. وفي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، يوصم المنشقّون على تويتر بـ "خلايا عزمي". وإذ يجري اعتباره محرّضًا في سورية، فإنه تجري ملاحقته في إسرائيل بتهمة التجسّس لصالح حزب الله اللبناني.
يدين عزمي بشارة بهذه المكانة أولًا لعقيدته الليبرالية. إنه قومي عربي. وهو علماني قلبًا وقالبًا، وُلد في بيتٍ مسيحي، ولكنه مؤيد لإدراج الحركة الإسلامية للإخوان المسلمين في اللعبة السياسية. وهو ديمقراطي راديكالي، مناصرٌ لتحوّل إسرائيل إلى "دولةٍ لجميع مواطنيها". وفي منطقةٍ تشهد انتكاسةً كاملةً نحو الاستبداد، ومهووسة بالخطر الإيراني، إلى درجة أنّ المَلَكيات النفطية أضحت تغازل علنًا الدولة العبرية، فإنّ هذا الالتزام غير متّسق مع محيطه.
إمبراطورية إعلامية-أكاديمية
إذا كان هذا التقدّمي يُثير الأهواء إلى هذا الحدّ، فذلك أيضًا بسبب القوة الضاربة التي منحه إيّاها البلد الذي تبنّاه: إمارة قطر الغازية الغنية. لقد ولّى بعيدًا العهد الذي كان فيه يُصارع بمفرده تقريبًا على مقاعد الكنيست، وهي معركةٌ قد أرست سمعته في الغرب. فانطلاقًا من الدوحة، حيث يُقيم منذ أكثر من عشر سنوات، أصبح يُشرف على مجموعةٍ من الصحف، والتلفزيونات، والمواقع الإلكترونية، ومعاهد البحوث، بما في ذلك المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وهو مركز البحوث (think tank) الأول عربيًا، والذي افتتح مؤخرًا فرعًا له في باريس.
إنّ هذه الإمبراطورية الإعلامية-الأكاديمية قد بناها عزمي بشارة بدعمٍ سياسي ومالي من آل ثاني، وهي الأسرة الحاكمة في الدوحة، ولا سيّما الأمير تميم، الذي هو مستشاره غير الرسمي وعلى نحوٍ متقطّع. "بخصوص فلسطين والعالم العربي، إنه مؤثر جدًا"، يعتبر دبلوماسي أوروبي يعمل في الدوحة. "ومنذ بداية أزمة الخليج قبل عام ونصف [بين قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتان تلومانها على قربها من إيران والإخوان المسلمين، وقامتا بعزلها]، كثيرٌ من الناس يعتقدون أنّ دوره قد أصبح أكبر".
ماركسيٌ سابق تلقّى تكوينه في جمهورية ألمانيا الديمقراطية
تحوّلٌ فريدٌ من نوعه: الماركسي السابق الذي تلقّى تكوينه في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، يُصبح لاجئًا في أغنى دولة في العالم (بالنسبة للفرد). وبطل المجتمع المدني الفلسطيني، يتحوّل إلى شبه مُؤتمَنٍ لدى عاهلٍ مطلق في الخليج. والمُنادي بالعروبة الذي أصبح العقل المدبّر للخروف الأسود للعالم العربي منذ أن قطع ركنا هذه المنطقة، وهما مصر والمملكة العربية السعودية، كلّ العلاقات مع الإمارة. إنّ هذا المسار من شأنه أن يجعلك تشعر بالدوار. فبالإضافة إلى المكائد التي يحيكها ضده معارضوه السياسيون، والذين يصوّرونه على أنه القرين السيئ للدوحة، فإنّ الرجل يجد نفسه يواجه شكاوى رفاق الكفاح السابقين، والذين يتهمونه بأنه تحوّل إلى "مثقّفٍ للسلطان".
وقد رفض لفترةٍ طويلة الإجابة على هذه الاتهامات. فخلال السنوات العشر الأخيرة، عادت وسائل الإعلام الأنغلوساكسونية والإسرائيلية التي طرقت بابه خالية الوفاض. وفي منتصف تموز/ يوليو، قبل عزمي بشارة طلب المقابلة من "لوموند". وعلى مدى خمس ساعات من نقاشٍ متقطّعٍ وغير محدّدٍ سلفًا، دافع الأكاديمي ذو الشارب، الذي كان يرتدي قميصًا مخطّطًا وسروالًا بحمّالات بلونٍ أزرق داكن، في مكتبه في المركز العربي في الدوحة، عن أخلاقيات الالتزام الكلاسيكي، عند تقاطع عالم الأفكار وعالم السلطة، والمدفوعة بطموحٍ واحد: "نهضة العالم العربي".
عندما قرّر عدم العودة إلى إسرائيل، في نيسان/ أبريل 2007، بعد أنّ قدّم استقالته من الكنيست إلى سفارة الدولة العبرية في القاهرة، كان المُنحدِر من الناصرة أحد أكثر المفكرين شعبيةً في العالم العربي. والحزب الذي أسّسه (التجمع الوطني الديمقراطي، بلد) أحدث ثورةً في الخطاب السياسي لفلسطينيي إسرائيل، تلك الأقلية، المكوّنة من الناجين من النكبة (الهجرة الجماعية القسرية لعام 1948) ومن الناجين منهم، الذين يشكّلون 17 في المئة من سكان البلاد. وقد غيّر شعاره الرئيسي "دولةٌ لجميع مواطنيها"، وهو المطالبة بالمساواة الكاملة بين اليهود والعرب، من الخطاب التقليدي لهذه الجماعة الأهلية، والتي كانت منقسمةً حتى ذلك الحين بين إنكار وجود إسرائيل، وحالة الجمود النوّاح، والاندماج الذي لا يجري تحمّل مسؤوليته على نحوٍ كامل.
وبفضل سعة معرفته ورباطة جأشه، فإنّ النائب بشارة، الذي انتُخب في عام 1996، ثم أعيد انتخابه ثلاث مرات، أصبح محبوبًا لوسائل الإعلام الإسرائيلية. وفي المقابل، كان الحاصل على الدكتوراه من جامعة هومبولت في برلين الشرقية، حيث درس لمدة خمس سنوات بمنحة من الحزب الشيوعي الإسرائيلي، يجد متعةً في إرباك الصحفيين. فإلى أحدهم، أعلن أنه كان سيرحّب باليهود بأذرعٍ مفتوحة "لو كانوا قد وصلوا إلى فلسطين كلاجئين"، و ليس –وهذا أمر ضمني في حديثه– كغزاة.
وإلى صحفي آخر، طالبه بالتوضيح إذا كان يشعر بأنه إسرائيلي أو فلسطيني في المقام الأول، فهو يجيب: "هوية الإنسان ليست قائمة تسوّقٍ حيث تُشير إلى ما يجب شراؤه أولًا". وإلى المخرجة سيمون بيتون، في الفيلم الوثائقي "المواطن بشارة"، الذي جرى تصويره في عام 2001، يعهد بنبرةٍ ساخطة: "إنهم يعدّوننا كأجلافٍ خارجين من حظيرتهم، وهم يُذهلون حين يعلمون أنك قد قرأت ماكس فيبر".
بيد أنّ نزعته للاستفزاز ستنقلب ضده. فرحلاته المنتظمة إلى دمشق، حيث كان يأخذ فلسطينيين آخرين من إسرائيل راغبين في إعادة الوصل مع أقاربهم في المنفى، وحيث كان يلتقي ببشار الأسد وينبري للدفاع عن "مقاومة" إسرائيل، بدأت تتسبّب في إزعاج متزايد. ولم تلق أولى رشقات الاتهامات التي وُجّهت له في عام 2001 –التحريض على العنف وتنظيم رحلات غير قانونية إلى سورية– النتائج المرجوة منها. ولكن مع الهجمة الثاني، في عام 2007 –محاكمة لـ "التخابر مع العدو"– بناءً على تعاونه المزعوم مع حزب الله، الذي قد يكون قد أجرى له تحويلات مالية، فقد أصبح التهديد أكثر قربًا.
"لقد كان موقفي لصالح المقاومة واضحًا دائمًا"، يصرّح الهارب اليوم. "الإسرائيليون احتلّوا بلدي، فهل كان ينبغي أن أقبل بذلك؟ ربما قد أكون قد تجاوزت بعض الحدود، وهذا جزءٌ من عملي. لقد تلقّينا تبرعاتٍ من الخارج مثل أيّ منظمة صهيونية، لكنني لم أتلقّ أبدًا أية أموالٍ من حزب الله. ولم تتمكّن السلطات الإسرائيلية من إثبات أيّ شيء. لقد كانوا عازمين على إسكاتي".
وإزاء خطر التعرض للسجن لعدة سنوات، فقد آثر المنظّر الإستراتيجي لحزب "بلد"، ذو الصحة الهشّة –كان قد خضع لزرع كلى–، أن يهرب. كانت أربع وجهات متاحة أمامه. عمّان، حيث وضع حقائبه في البداية. ودمشق، حيث قدّم له بشار الأسد منزلًا. ولبنان، الذي فتح أمامه بابه رئيسه في ذلك الوقت، ميشيل لحود. والدوحة، إذن. الخيار الأول كان موسومًا بعدم اليقين إلى حدٍّ كبير: فالمملكة الهاشمية لها علاقات رسمية مع إسرائيل، وضيف التاج يمكن أن يصبح سريعًا ضيفًا ثقيلًا. والوجهة الثانية كانت محرجةً للغاية: فقد فَقَد عزمي بشارة أوهامه بشأن الرئيس السوري، وهو الذي كان قد مدح خطابه الإصلاحي في البداية.
"بعد تجاوز الأزمة المرتبطة باغتيال رفيق الحريري في عام 2005، أصبح بشار الأسد متغطرسًا للغاية"، يعهد لنا الفيلسوف. "فهمتُ أنه لم يكن مختلفًا عن الجيل الثاني من الزعماء العرب، أولئك الأطفال المدلّلين مثل سيف الإسلام القذافي وجمال مبارك في تلك الفترة، أو محمد بن سلمان ومحمد بن زايد (الإمارات العربية المتحدة) اليوم. إنهم جميعهم يقدّمون أنفسهم كمصلحين ليكتسبوا الشرعية التي تنقصهم. في حين تقتصر ليبراليتهم على استيراد نمط الحياة على الطريقة الغربية الذي يحبونه، وهم ليسوا أقلّ ديكتاتوريةً من أسلافهم، مع فارق الكاريزما".
الدوحة، "حلٌّ توفيقي مثالي"
وعلى اعتبار أنّ خيار بيروت لم يكن قابلًا للتصوّر أيضًا، لأنه كان سيبدو كإقرار بالذنب، فإنّ عزمي بشارة استقرّ في الدوحة. وقد كان الأمير في ذلك الحين، حمد بن خليفة آل ثاني، والد تميم، صديقًا شخصيًا له التقى به في نهاية التسعينيات، خلال مأدبة غداء في مطعم "مكسيمس"، وهو أحد أشهر المطاعم في باريس. "في أحد الأيام عندما كنت في الإمارة بدعوة من [القناة التلفزيونية] الجزيرة"، يروي لنا، "عرض عليّ الشيخ حمد البقاء. إنه الوحيد الذي لم يضع أيّ شرطٍ على استقراري. ولم يتدخل أبدًا في أعمالي. بالنسبة إليّ أنا الذي لم أكن أرغب في الاستقرار في أوروبا، كان هذا الحل التوفيقي المثالي. لقد وجدت راحة البال اللازمة لأبحاثي".
في تلك الفترة، كانت الشركة الناشئة (start-up) آل ثاني آخذةً في الصعود. وبدفعٍ قوي لعائداتها من الغاز، أصبحت شبه الجزيرة، التي لم يكن يعرفها أحدٌ قبل عشر سنوات، البلد الذي يتحدث عنه الجميع: الولايات المتحدة، حيث تستضيف أكبر قاعدة عسكرية لها في الشرق الأوسط، وبشار الأسد، الذي كان يتردّد بانتظام، على الرغم من مقاطعة واشنطن، على المطاعم ومراكز التسوق في الدوحة، وحزب الله الذي كان يتلقّى مساعدةً مالية من قطر لإعادة بناء جنوب لبنان، الذي دمرته أعمال القصف الإسرائيلية في صيف 2006، والأوروبيون الذين كانوا يُعيرون نخبهم إلى المشاريع الرياضية والثقافية المتعدّدة التي أطلقتها الإمارة، وحتى الدولة العبرية، التي نجت تمثيلتها التجارية في الدوحة، التي كانت قد افتتحت في خضمّ نشوة عملية أوسلو للسلام، من الانتفاضة الثانية.
لقد كان هذا النشاط الدبلوماسي المتزايد الذي أطلقه الأمير، بمجرد وصوله إلى السلطة في عام 1995، يهدف إلى إخراج قطر من ظلّ المملكة العربية السعودية. ولكي يزرع في بلده الصغير العلامات الخارجية لليبرالية الثقافية الغربية، بوصفها ضمانًا للبروز على الساحة الدولية ومن ثمّ الاستقلالية، كان حمد يحتاج إلى أن يتحرّر من جاره، وخاصة من وصاية متديّنيه، المحافظون المتشدّدون الوهابيون. وهو ما أصبح أمرًا حاصلًا في عام 2008، وهي سنة سعدٍ رأت الدوحة تفرض نفسها كوسيط في لبنان، على الرغم من كون هذا الأخير حكرًا على السعوديين، وتستقبل حشدًا من كبار الشخصيات الغربية لافتتاح متحفها للفنون الإسلامية.
وباعتباره مناصرًا للقومية العربية، وهو تيارٌ معادٍ تاريخيًا لبيت آل سعود، فإنّ بشارة كان يتماشى مع هذا الخط. فعلى قناة الجزيرة، كان يدافع عن عملية التمكين القطري. وليس هناك شك في أنه في مناقشاته مع الأمير، كان يشجعه أيضًا على هذا النهج. وقد ازداد القرب بين الرجلين مع بداية "الربيع العربي" في عام 2011. فقد كانت قطر، التي أصبحت بفضل قناة الجزيرة، رسولة الانفتاح السياسي للشرق الأوسط، ملزَمةً بمرافقة حركات الانتفاضة. في تونس، وفي مصر، وفي ليبيا، وحتى في سورية، حيث تخلّت عن حليفها السابق بشار الأسد بعد بضعة أسابيع من الإرجاء.
"المثقف العضوي للثورات"
بوصفه مناصرًا للديمقراطية في العالم العربي، لم يكن لديه بدوره أيّ تردد. فعلى قناة الجزيرة، والتي نصّبته معلّقًا شبه دائم، أشاد بمتمرّدي سيدي بوزيد، وميدان التحرير، وبنغازي، ودرعا. وقد ركّز المركز العربي الذي افتُتح في عام 2010، وهو أول "مولودٍ لبشارة" ، خبرته على هذه القطيعة التاريخية. وبفضل جزالته ومهاراته في التعامل مع الآخرين، سهّل "عزمي" عقد لقاء للمعارضين السوريين، بشكلٍ تحضيري لإنشاء المجلس الوطني السوري، وهي أول منصة لمناهضي الأسد.
"أنا أُفضّل الإصلاحات على الثورة. إنها أكثر أمانًا"، يقول المنفيّ إلى الدوحة. "في الغالب الأغلب تؤدّي الثورات إلى الاستبداد. لكن عندما ينزل المجتمع إلى الشارع، من الطبيعي دعمه". "لقد أصبح بحكم الضرورة المثقف العضوي للثورات العربية"، يشرح لنا عالم السياسة ستيفان لاكروا، وهو الخبير بالشرق الأوسط. "لم يكن صاحب قوة خارقة deus ex machina يَسْحبُ الحبال، كما يَقُولُ البعض. لكنه أنتج خطابًا منظّمًا حول حركة، وأعطى عناصر اللغة والخطاب، وصاغ ما كانت الناس يستشعرونه بالفطرة".
بيد أنّ الوضع سيتعقّد ابتداءً من عام 2013. وسيصبح سجلّ الثورات قاتمًا. فعندما لم يخرج الإسلاميون منتصرين من صناديق الاقتراع، كما هو الحال في تونس وخاصة في مصر حيث ضاعفوا الأخطاء المأساوية، فرضت الفوضى نفسها في ليبيا وسورية واليمن. وقد مثّلت الإزاحة في القاهرة، في شهر تموز/ يوليو من العام نفسه، للرئيس محمد مرسي، المنحدر من جماعة الإخوان المسلمين، نقطة تحول. وكانت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتان دعمتا مُسقطه، المارشال عبد الفتاح السيسي، تشجعان هذه الدينامية للثورة المضادة.
بحسب بشارة، الدور الذي أدّاه هذا "المحور الرجعي" هو أحد العوامل التي تفسر فشل الانتفاضات، من بين العديد من العوامل الأخرى: "عنف الأنظمة القائمة، بدءًا بنظام دمشق"، "عدم تنظيم الجماهير، التي نزلت عفويًا إلى الشوارع، بدون نموذج أو بديل في الأذهان"، "عدم وجود ثقافة ديمقراطية للنخب العربية السياسية التي استعادت هذه الحركات لحسابها"، و"سطحية أوباما، التقدمي في الظاهر، ولكن المتضامن مع المستبدين في الواقع".
الراعي والمُرشد
حينها سيصبح عزمي بشارة هدفًا. فالدعاية الموالية للرياض تقدمه بوصفه المستشار الأكبر في الدوحة، الرجل الذي يهمس في أذن تميم، وهو شاب يبلغ من العمر ثلاثين عامًا اعتلى العرش في حزيران/ يونيو 2013. وقد كان رسم هذه الصورة المشوهة سهلًا بقدر ما أنه قد واصل توسيع مجاله. فبالإضافة إلى المركز العربي ومعهد الدوحة، وهو مدرسة للدراسات العليا مرتبطة به، فإنه أطلق مركزين فكريين (think tanks) مخصّصين لسورية. وبدأت حظيرة من المثقفين العرب الشباب، وقد أصبحوا يتامى انتفاضات 2011، في البروز في أَثَره، وهو يؤدّي إلى جانبهم دور راعٍ ومرشدٍ في الآن ذاته.
"كان بإمكاني البقاء في بيتي، وأن أنأى بنفسي عن الشؤون العامة وأكتب كتبي الفلسفية"، يعهد لنا عزمي بشارة. "لكني أردت الإسهام في بناء جيل جديد من الباحثين، ونشر أفكار التنوير. لذلك، نحن بحاجة إلى مؤسّسات، وبالتالي إلى أموال. ففي إسرائيل، كما في فرنسا والولايات المتحدة، لا يعمل أيّ مركز للأبحاث في العلوم الاجتماعية بدون دعمٍ مالي. فالاختبار ليس هو أين نكتب، ولكن ماذا نكتب. فهل يجد أولئك الذين يتهموننا بأننا قد بعنا أنفسنا إلى قطر الدليل في منشوراتنا على أي تبعية أو خضوع من هذا النوع؟".
وفي المجال الإعلامي، لا يقلّ "المواطن بشارة" اضطلاعًا بالأنشطة. فبدعمٍ من الدوحة، أنشأ أو ساعد في إنشاء صحيفة باللغة العربية، "العربي الجديد"، وقناة إخبارية شاملة، "العربي"، وهي الشقيقة الليبرالية الصغرى لقناة الجزيرة، وموقعًا إخباريًا باللغة الإنجليزية، The New Arab، وآخر باللغة العربية، "المدن"، وقناة مكرّسة للتطورات السورية، "سورية تي في". "لقد أسّست هذه الهيئات للتأثير في الرأي العام والدفاع عن القيَم الأصلية للثورات. ففي العالم العربي، لا يوجد الكثير من المثقفين. ولا يمكننا تحمل مغادرة المشهد عندما تحترق بلداننا".
وقد تصاعدت الاتهامات تجاهه مع اندلاع أزمة الخليج في حزيران/ يونيو 2017. فبالإضافة إلى إغلاق قناة الجزيرة وتخفيض علاقاتها مع طهران، فقد أُنذرت الدوحة من قبل جيرانها بوضع حدٍّ لـ "العربي الجديد"، وهي المنافس المباشر لصحف يومية سعودية مثل "الحياة" و"الشرق الأوسط". وللاشتباه بإثارته الفتنة، فقد أُطلق على بشارة على الشبكات الاجتماعية تسمية "راسبوتين الدوحة"، أو "عميل الموساد"، أو "عرّاب الإرهاب".
المكونات المثالية لـ "نظرية المؤامرة" العربية
على غرار الحملة ضد جورج سوروس، المُفعمة بالتلميحات المعادية للسامية، فإنّ الصيغ التي يوصف بها تُبرز جنسيته الإسرائيلية أو جذوره المسيحية، وهي المكونات المثالية لـ "نظرية المؤامرة" العربية. "بالنسبة إلى مستخدم تويتر سعودي لا يفقه شيئًا، فإنّ الخلط بين الكنيست + مسيحي + قطر هو أمرٌ موجبٌ بصدّه"، يلاحظ ستيفان لاكروا. "هكذا أصبح عزمي بشارة العدو المثالي".
"إنه مسؤولٌ عن الشعور المعادي للسعودية والمعادي للإمارات الذي تطوّر على مدى السنوات العشرين الماضية في قطر"، يُندّد بشدّة عبدالخالق عبدالله، وهو عالم سياسة مقيمٌ في دبي. "لقد كان يحلم بأن يكون رسولًا للنهضة العربية، لكنه لم يزرع سوى الفوضى. انظروا إلى حالة العالم العربي. لقد خدع الجميع. أعتقد أنه يجب أن يعتذر".
"إنّ هذا الأمر مبالغٌ فيه جدًا"، يُجيب أندرياس كريغ، وهو متخصّص في قضايا الأمن في الخليج. "لقد بدأت قطر تنأى بنفسها عن المملكة العربية السعودية وتتحدث عن الإصلاحات قبل فترةٍ طويلة من استقرار بشارة هناك. لطالما كانت وجهات نظره ووجهات نظر السلطات مكمّلةً لبعضها البعض. فعلاقته مع قطر هي زواجٌ للمصالح المتلاقية".
"في الحكومة، يعتقد البعض أنّ المركز العربي وجميع وسائل الإعلام التي يُشرف عليها بشارة لا تقوم بما يكفي لمواجهة هجوم الإمارات والعربية السعودية"
ردًّا على حملة المضايقات هذه، فإن الكاتب المقيم الدوحة يأخذ الأمر من زاوية فلسفية: "هذا أمرٌ لا بأس به (fair enough). يكفي أنه ليس باستطاعتهم تعذيبنا!". غير أنّ الرجل ليس دائًما متساهلا إلى هذه الدرجة. ففي شهر حزيران/ يونيو، اجتذبت وكالة فرانس برس غضب مجموعته الصحافية والبحثية لنشرها وصفًا له اعتُبر مسيئًا له. فبوصفه ضيفًا شخصيًا لدى الأمير، عرضةً لأن يُزاح من الدوحة بين عشيةٍ وضحاها، فإنه يسهر بحرصٍ شديد على صورته العامة.
ووفقًا لأحد المطلعين عن كثبٍ على دواليب السلطة القطرية، والذي يحرص على عدم الكشف عن هويته، فإن العمل الذي يقوم به يجري تقديره داخليًا على نحوٍ متباين: "أعرف أناسًا في الحكومة يعتبرون أنّ المركز العربي وجميع وسائل الإعلام التي يشرف عليها لا تقوم بما يكفي لمواجهة هجوم الإمارات والعربية السعودية"، يؤكّد هذا المصدر. "وفي المؤسسات، نرى على نحوٍ متزايد خريجين شبابًا من أسرة آل ثاني، يصعب عليهم أن يجدوا أنفسهم مع مثقفٍ مثل بشارة، ممثّلٍ في أعينهم للحرس القديم القومي العربي".
ويدرك المعني بالأمر هشاشة وضعه. فهو لا يدعي أنه سينهي أيامه في الدوحة. "يوم ستمنعني قطر من العمل من أجل الديمقراطية، سأرحل"، على حدّ قوله. بل إنه يؤكد أنه إذا أتى يومٌ على مواطني الإمارة نزلوا فيه إلى الشارع للمطالبة بمزيدٍ من الحرية، فإنه سوف يدعمهم، مع تأكيده أنّ هذا الاحتمال يبدو له غير واردٍ: "لدى القطريين مطالبات –توزيع أفضل للثروة على سبيل المثال–، ولكنها ليست مصر أو تونس أو المغرب"، كما يوضّح. "السؤال الرئيس الذي يُطرح هنا في قطر ليس هو التحول إلى ديمقراطية".
مؤسّسة أبحاث لا نظير لها
على افتراض أنّ إقامته القطرية قد يطرأ أن تتوقّف بغتة، فإنّ عزمي بشارة سيترك وراءه مؤسّسة بحثية ليس لها نظيرٌ في المنطقة. فقد اكتسب المركز العربي خلال السنوات الثماني من الوجود سمعة الجدية والانفتاح التي تفتقر إليها معظم المؤسسات الأخرى من هذا النوع في الشرق الأوسط. "بالطبع، لن يكتبوا أيّ شيء عن المعارضة القطرية، ولكن حول أيّ موضوع آخر تقريبًا. إنها مساحة حقيقية للنقاش لا تكاد توجد في أيّ مكان آخر "، يقول ستيفان لاكروا.
وينشر المركز مجموعةً من المجلات الأكاديمية في الفلسفة، وعلم الاجتماع، والتاريخ، والعلوم السياسية. ويترجم إلى اللغة العربية الأعمال المرجعية في الفكر الغربي المعاصر، مثل "صنع التاريخ" لجاك لوغوف وبيير نورا، و"عن الدولة" لبيار بورديو، فيما يخصّ الكتّاب الفرنسيين. وهو يعقد مؤتمرات دورية، تجذب زبدة البحث العربي حول موضوعات ترتبط مباشرةً بالأحداث الدرامية التي تشهدها المنطقة، ولكن ليس ذلك فحسب. فأحد المشاريع الرئيسية للمركز العربي هي تطوير "المعجم التاريخي للغة العربية ". وهو عمل عملاق في عشرين مجلدًا، ينبغي أن يرى الجزء الأول منه النور قريبًا.
من خلال ذلك، يطمح عزمي بشارة ومجموعته إلى إعادة إحياء العلوم الاجتماعية في العالم العربي، وهو مجالٌ جرت التضحية به في كثير من الأحيان، لأنه يُنظر إليه على أنه معادٍ للأنظمة القائمة. وهدفهم هو منح الباحثين العرب من جديد القدرة على الكتابة عن أنفسهم، وهي وظيفة جرى الاضطلاع بها على نطاقٍ واسع من قبل نظرائهم الأوروبيين والأمريكيين. "ليست لدينا أوهام، ليس هذا هو ما سيُحدث ثورةً في الشرق الأوسط"، يُقرّ محمد المصري، المدير التنفيذي للمركز العربي. "لكن إنتاج معارف من شأنها أن تنافس معارف الأكاديميين الغربيين هو بحدّ ذاته خطوة كبيرة". ولعدم إمكان أن يشهد النهضة السياسية للعالم العربي، فإنّ علّامة الدوحة يأمل المساهمة في نهضته الفكرية.