"لن تكون دولة فلسطينية" - عن نهاية المشروع الوطني الفلسطيني والبدائل ودور المعارضة الديمقراطية
أجرى المقابلة جو ستورك
عن الانجليزية: رجاء زعبي عمري – مديرة تحرير أجراس العودة
س: كيف تقيّم الوضع الحالي؟
بشارة: مع أو ضد الاتفاق، لا يشكّل الأمر فرقاً. ولكنني لا أظن أن هنالك ما يدعو إلى الاحتفال.
س: إذن أنت لا تعتقد أنه يشكل اختراقاً بأي شكل؟
بشارة: إنه اختراق، ولكن لمن؟ لا شك في ذلك، إنها لحظة تاريخية. في كامب ديفيد كانت القوى في الشرق الأوسط، مع أو ضد، أكثر توازناً. في هذه المرة سوريا تفاوض تكتيكيًا على شروط أفضل، ولكن سوريا ليست ضد الاتفاق. إيران ضد الاتفاق بالمعنى الأيديولوجي ولكن ليس بأي شكل عمليّ. ما شكّل هذه اللحظة التاريخية هو صيغة إسرائيلية أمريكية، يجري فرضها على الفلسطينيين في أعقاب حرب الخليج. كما أن ليس هنالك أي تحالف قوى دولية ضد هذه الصيغة.
س: ولكن التغى الحظر الإسرائيلي على منظمة تحرير فلسطين.
بشارة: بعد أن فاز حزب العمل في الانتخابات في إسرائيل، كان لبيرس أن يتوجه نحو مفاوضات متعددة الأطراف. وبيرس – خلافاً لرابين – ليس ذا توجهات أمريكية بحتة. هو ليس مع الهيمنة الأمريكية. بالنسبة إلى بيرس كان التوجه دائمًا نحو أوروبا. فقد كان مهندس حرب 1956 مع بريطانيا وفرنسا وتفاهمات ألمانية إسرائيلية. ولكنه أيضاً تماثل مع التغيير في أوروبا. إن صيغة مدريد هي صيغة أمريكية – ليكودية وبيرس لم يتماثل معها. وعند تشكيل الوفد الفلسطيني فقد شكلوا أيضاً عجزه عن القيام بأي شيء.
حزب العمل، عندما كان في المعارضة، انفتح على الطبقات المتوسطة. إسرائيل ليست بعدُ مجرد دولة مستوطنين ومزارعين وعمال صناعة، فقد نشأت في المدن طبقة وسطى واسعة جدًا. وفي أوقات ترفها يمكنها أن تكون ذات توجهات قومية جدًا. لقد صوتت في صالح الليكود ورفعته إلى سدّة الحكم. ولكن ليس لدى هذه الطبقات المتوسطة روابط عقيدية قوية تجاه المناطق المحتلة.
لطالما كان جناح بيرس في حزب العمل يصبو إلى تمثيل التكنوكراط والصناعيين. فهذه الشريحة تحلم بأن تصبح إسرائيل في المنطقة ليس فقط قوة عظمى عسكرية وإنما أيضاً قوة عظمى اقتصادية. واقتصاديًا، تحتاج مثل هذه الدولة العظمى سلامًا في الأسواق المحيطة.
س: هل هذه الطبقات الإدارية تشارك بيرس توجّهه الأوروبي؟
بشارة: إنهم أمريكيون جدًا في أسلوبهم، ولكنهم يعرفون أن أوروبا هي أقرب إلى الشرق الأوسط من أمريكا. إن تبادل الأسهم في سوق المال أهم من المناطق، خاصة إذا كان الانسحاب من المناطق سيقود إلى الاعتراف والتطبيع.
س: كيف اقتنع رابين (بتوقيع الاتفاق)؟
بشارة: بالنسبة إلى رابين، القضية الفلسطينية هي قضية علاقات عامة، وليست قضية استراتيجية. القضايا الاستراتيجية هي سوريا، العراق.. لقد جاء ليتأكد من فرضية أن مصافحة عرفات ستفتح عوالم أمام إسرائيل. إضافة إلى ذلك فقد أصبح من غير الممكن حكم غزة. الدول موجودة لتحكم، وإن لم تستطع فستنشأ أزمة. وغزة قد أنتجت الأزمة. كذلك فإن رابين كان بحاجة ماسّة إلى إنجاز سياسي. فاجتياحه لبنان في شهر تموز كان خطأ. لم يجلب له ذلك شيئًا.
لقد أراد رابين التعامل مع سوريا فعلاً في موضوع الجولان، ولكن واجهه الرأي العام الإسرائيلي، وهو رأي دعمته وموّلته إلى حد ما المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة. لا يستطيع رابين الموافقة على انسحاب شامل وفوري من الجولان، ولكنه أيضاً يريد سلامًا شاملاً مقابل انسحاب تدريجي. وسوريا تقول: انسحاب تدريجي يقابله سلام تدريجي. ولكن رابين لا يمكنه تسويق مثل هذا الموقف للرأي العام الإسرائيلي. ونظرًا إلى ضعف منظمة تحرير فلسطين، أدرك رابين أن من الأسهل عليه بكثير تسويق صفقة فلسطينية يقبلها الرأي العام الإسرائيلي. لقد أعطى بيرس لعرفات عصًا، فتمسّك هذا بها لأنه كان يغرق. وحقيقة أنه تمسّك بها لا تستحق الكثير من التقدير، إذ لم تلعب الحنكة السياسية دورًا هنا.
س: هل السؤال اليوم هو، ما إذا ستكون هنالك دولة؟
بشارة: يعرف الإسرائيليون الآن أن هنالك علمًا فلسطينيًا سيُرفع، وأن الأمر ليس مُريعًا إلى هذه الدرجة. الاختراق الذي تحقق هو أنه في مدينة صغيرة، هي أريحا، سيكون حل "نهائي وشامل" وفي المناطق العربية ستمتد العملية على خمس سنوات. معظم الإسرائيليين اليوم يتقبلون فكرة وطن قومي فلسطيني، أو محمية فلسطينية. أمّا طموحات الفلسطينيين فهي أبعد بكثير ممّا يقبل الإسرائيليون "إعطاءَه". ولكن المشكلة أنه في ضوء مبنى القوى اللامتكافئ في المفاوضات، يبدو كل شيء وكأنه "معروفيّة" للفلسطينيين.
س: مؤيّدو اتفاق أوسلو يجادلون بأنه قلب الوضع سيكولوجيًا، فالأرضية التي يتحركون فوقها اليوم هي أفضل من السابق.
بشارة: بالنسبة إلى القيادات نعم، ولكن ليس بالنسبة إلى مخيمات اللاجئين. إنهم ينمّون الآن فنطازيا اقتصادية، سيصبحون بموجبها مثل سنغافورة وماليزيا. الناس يحلمون بأنهم سيصبحون أيدٍ عاملة رخيصة – إنه أمر لا يصدّق! الحصول على عِمالة رخيصة هو حلم الرأسماليين. أنا لا أفهم لماذا يجب أن يكون لديّ مثل حلمهم هذا.
س: ماذا على المعارضة الفلسطينية أن تفعل؟
بشارة: قبل كل شيء، علينا أن نقرر أين نقف نحن، لناحية الأوضاع في العالم العربي. السؤال هو، هل سـتكون إسرائيل مع تقدّم العالم العربي؟ مع الديمقراطية في الأردن، في اليمن، في المغرب؟ لقد كانت الإمبريالية عاملاً هامًا في تدمير التيارات الديمقراطية في القومية العربية. لا يمكنني فهم نشوء هذه الدكتاتوريات القومية والحركات الإسلامية بدون حرب 1967. والسؤال ليس فقط أين نقف كفلسطينيين، وإنما أيضًا أين نقف كتقدميّين. هل نعتقد أنه ما زالت هنالك إمكانية لبناء عالم عربي ديمقراطي، تقدمي؟ إذا كان الجواب نعم، فليس بإمكاننا أن نكون جسر الرأسمال الإسرائيلي إلى العالم العربي.
س: ما هي الإمكانيات؟
بشارة: نحن نقترب من سقوط ما يسمّونه القومية – الممثلة في الفصائل السورية. النزعة الإسلامية تتحرك نحو أزمة. على الفلسطينيين تحليل الوضع بعقل صافٍ. البرجوازية تفهم أن هنالك هزيمة، وأن على أحدهم أن يوقع وثيقة الاستسلام، وعرفات فعل ذلك.
هنالك من هم على استعداد للتحرر من ازدواجية الموقف هذه، وأقصد تأييد الاتفاق ومعارضته في الوقت نفسه. ليس لأنهم يؤيدون الاتفاق، وإنما لأنهم يريدون التقدم خطوة إلى الأمام ومحاولة تعريف سيناريو لعلاقتنا مع إسرائيل وعلاقتنا مع بقية العالم العربي. السؤال هو، هل يمكننا أن نتبيّن هنا بديلاً ديمقراطيًا؟ أن أجلس في بيتي وأتذمّر ليس هو البديل.
س: ما هو ترتيب أولويات العمل الفكري والعمل السياسي؟
بشارة: إذا أرادت القوى الفلسطينية الديمقراطية أن تنشأ ثقافة سياسية في المستقبل، يجب على فتشـيّة الدولة الفلسطينية أن تتوقف. إنه شعار يافع جدًا (شعار الدولة الفلسطينية). في حوزتي منشورات من سنوات السبعين، من مركز الدراسات الفلسطينية في بيروت، التابع لمنظمة تحرير فلسطين، تتحدث عن المؤامرة الصهيونية الرامية إلى إقامة دولة فلسطينية. اليسار الصهيوني واليمين العربي على حدّ سواء، يتحدثون عنها وكأنما في نهاية الأمر ستقوم دولة فلسطينية. أنا لا أعتقد أن الأمور ستقود بالضرورة إلى دولة فلسطينية. وإذا قامت دولة فلن تكون إنجازًا محسوبًا لاتفاق أوسلو فقط، بل وأيضًا إنجاز النضال ضد الواقع الذي يعكسه ويعززه هذا الاتفاق.
يجب علينا أن نناضل لأجل قيم، مثل المساواة، والحرية، وحق الناس في الحصول على الطعام، وحق النساء في السيادة على أجسادهن. وبطريقة ما، علينا أن نبدأ بتنشئة كوادر فتح، والجبهة الشعبية، والجبهة الديمقراطية. هذا ما أفعله أنا مع طلابي في جامعة بير زيت؛ أعلّمهم أن هذا الاتفاق لا يحقق المساواة. يجب أن تُريهم أن وراء تلك الواجهات الدبلوماسية التي تشرب البُنتْش معًا في طابا، ليس هنالك مساواة ولا بأي شكل كان. هنالك طرف يتوسّل لأجل كل سجين، وطرف لا زال يطالب بالتنازلات مقابل الاعتراف بمنظمة تحرير فلسطين.
س: الفلسطينيون هم الطرف الأضعف، ولكن لو لم يحصّلوا شيئاً لما كان هناك اتفاق.
بشارة: طبعًا، الانتفاضة أدّت إلى الاستعداد في المجتمع الإسرائيلي لقبول ما جرى اقتراحه. إنه الوقت الأفضل بالنسبة إلى إسرائيل لكي تبدأ التعاطي مع العالم العربي في مجال الأعمال. حقاً، لا يجب علينا أن نفكر بمفاهيم من قبيل أن الضغط على إسرائيل هو الذي أدى إلى الاتفاق، بل على عكس ذلك، عليك أن تتذكر 11/6/1967 عندما كتبت الحكومة الإسرائيلية رسالة إلى جونسون تخبره بأنهم على استعداد لإعادة جميع المناطق مقابل الاعتراف العربي. عليك ان تموضع الأمور في المنظور التاريخي. لقد حصلت إسرائيل الآن على الاعتراف بدون الانسحاب.
في أثناء حرب الخليج، كان هنالك قلق حقيقي لدى الإسرائيليين الأكبر سناً والقيادات. لقد كانت تل أبيب فارغة بكل معنى الكلمة. في أثناء حرب الخليج لم يرد الناس التظاهر بالصمود أو إظهار أن الإسرائيليين يختلفون. لقد هربوا. لقد كان واضحًا أن سلوك هذا المجتمع في أوقات الحرب، كان بتوجّه مختلف في هذه المرّة. ربما بدأ ذلك في أيام حرب لبنان، ولكن من الواضح أن هذا المجتمع لا يتصرّف على النحو المعتاد. هذا المجتمع نفسه، خيّب ظنّ الليكود عندما عاد إليه بنقد يمينيّ شديد اللهجة لاتفاق أوسلو، إذ وجد الليكود نفسه يتحدث إلى الهامش. ما زلت أعتقد أن الشعب الإسرائيلي يريد أن يعطي أكثر مما ترغب قيادته في الإقدام عليه.
س: في الفترة المقبلة، كل لجنة من اللجان المشكّلة سوف تشهد صراعًا قويًا. هل ترى إمكانيات لتحالف بين القوى الفلسطينية – الإسرائيلية فيما يخصّ تلك الصراعات؟
بشارة: بالمجمَل، يشعر الإسرائيليون أن هذه الأسئلة سوف يجري حلها حول طاولة المفاوضات. "اترك الأمر للمختصّين". حركة السلام في إسرائيل لا ترى أية حاجة إلى عمل منفصل ومستقلّ. على عكس ذلك، هم يريدون تعزيز موقعهم داخل إسرائيل وتحصيل تمثيل أكبر في الوفود. لا أرى كيف يمكنك تنظيم حركة إسرائيلية لأجل مطالب فلسطينية، إلاّ إذا كنت تنشط خارج المفاوضات لكي تغير ميزان القوى وليس مجرد أن يكون نشاطك تعبيرًا عنه.
س: هل تعتقد أن منظمة تحرير فلسطين تفهم هذا؟
بشارة: هم يفهمونه، ولكني لا أعتقد أنهم يريدونه. إن عرفات رهينة اعتراف رابين. عندما جاء رابين إلى القاهرة مع نحو 15 اقتراحًا، قبلها عرفات كلّها ولم يكن هناك بند واحد مختلفاً عليه. إن استراتيجيّتهم الآن هي فقط الإرضاء.
س: ماذا يجب أن يكون دور القوى التقدمية؟
بشارة: لا يجب علينا الضلوع في الأمر. علينا قدر الإمكان أن نحتفظ بموقف نقديّ مستقلّ. هنالك نقص في الأماكن التي يمكن فيها إظهار هذا الموقف؛ فجميع الصحف الفلسطينية هي لمنظمة تحرير فلسطين أو هذا النظام العربي أو ذاك. لا توجد صحيفة مستقلة يمكننا التعبير من خلالها عن أنفسنا. ربما – إذا أردنا أن نساعد – علينا البدء بصحيفة تكون نقديّة تجاه ما يحدث في السياسة والمجتمع.
س: لا يمكنك مقاطعة الاتفاق، ولكن لا يمكنك تأييده.
بشارة: معنى ذلك، أن لا تكون ضالعاً في الصراعات على حصة في السلطة، أن لا تدعم قضاياها، وأن لا تدعم قيادة منظمة التحرير. علينا أن نناضل من أجل قضايا مثل السيادة القومية، المساواة مع إسرائيل، انتخابات ودستور، ولكن المقاطعة يمكن أن تكون جزءًا من النضال. لا يمكنك أن تدير ظهرك وحسب. أنا متأكد من ذلك.
----------
نشرت المقابلة باللغة الانجليزية، في مجلة "ميدل إيست ريبورت" عدد كانون تاني – شباط / 1994