حوار - وليد الشيخ
جاءت قضية محاكمة الدكتور عزمي بشارة - رئيس حزب التجمع الديمقراطي العربي وعضو الكنيست - بتهمة خيانة إسرائيل لتفتح الباب مجددا أمام مناقشة ملف فلسطينيي 48 الذي تناساه الجميع منذ ما يزيد عن خمسين عاما .. وجاء رفع الحصانة عن بشارة من جانب الكنيست الإسرائيلي ليثبت مدى عنصرية إسرائيل.. خاصة أن رفع الحصانة تم في تصويت مباشر شارك فيه ليست فقط صقور اليمين المتطرف.. بل أيضا حمائم السلام الوديعة في حزب العمل!!.. هذا بالإضافة للتناقضات الموجودة أساسا بين الأشكيناز والسفرديم والصابرا واليهود الروس وغيرهم!
وفي زيارة خاطفة قام بها الدكتور عزمي بشارة إلى برلين لدعم الانتفاضة أجرينا حوارا معه تميز بالجراءة والصراحة.. والحدة أحيانا في محاولة للكشف عن العديد من الأسرار والألغاز ومحاولة لفهم الصورة من الداخل.. بدلا من إطلاق الأحكام السهلة.. إما بالبطولة أو التخوين، إما بالإيمان أو التكفير..
انتفاضة الأقصى ليست عفوية
* د. عزمي ما هو الفارق بين الانتفاضة الأولى 1987، والانتفاضة الثانية.. انتفاضة الأقصى؟
- الانتفاضة الأولى -التي تابعتها حين كنت أستاذًا في جامعة "بيرزيت"- كانت انتفاضة عفوية ضد الضغوط. ولكن هذه الانتفاضة تمثل رفضًا لمحاولة كل من "باراك" و"كلينتون" لفرض حلول غير عادلة. إنها انتفاضة سياسية بأهداف سياسية واضحة جدًا، وليست مجرد فوضى يخوضها الأطفال والمتظاهرون. فالبعض في الإعلام الغربي يقول بأن الفلسطينيين يقاتلون من أجل دولة فلسطينية جديدة، ولكننا في الواقع لا نحتاج لدولة عربية رقم 23.. ومجرد مزيد من السجون والشرطة والمؤسسات الحكومية. إن الشعب الفلسطيني يقاتل من أجل العدل والحرية. فالفلسطينيون - منذ البداية - لم يقبلوا بالمستوطنات أو بانتهاك حق العودة، فكيف يتوقعون قبول مجرد حصولهم على دولة؟!
* وهل هناك مستقبل للانتفاضة في ظل الضغوط الدولية والضعف العربي؟
- إن طرح سؤال: "هل تستمر الانتفاضة؟!" سؤال مغرض؛ فالسؤال يجب أن يكون "هل ستدعمون الانتفاضة أم لا؟! وهل ستمدونها بالظروف لتستمر.. هذه هي الأسئلة الحقيقية حيث يجب أن توفر كل الإمكانيات لدعم الانتفاضة. فلا يجب أن تتم لقاءات الدول العربية بصورة ثنائية مع الغرب، بل يجب أن يكون هناك وفد عربي موحد لمناقشة القضية الفلسطينية مع أوربا والولايات المتحدة.. هذا ما ننتظره الآن، وليس مجرد وضعنا في امتحان.. هل تنجحون أم لا؟ تكملون أم لا؟! وهذا نفسه هو ما يفعله بعض الساسة والمثقفين العرب حين يتساءلون هل سينجح شارون أم يسقط؟ فليس عملنا انتظار ما سيحدث في إسرائيل، بل يجب أن نسأل أنفسنا، ماذا سنفعل نحن؟! بحيث لا يبقى الفاعل الوحيد في المنطقة هو شارون.
* ماذا يستطيع أن يفعل حزبكم لصالح الانتفاضة الفلسطينية؟
- لقد تغير المزاج السياسي لعرب الداخل بصورة واضحة خلال السنوات الخمس الأخيرة، للحفاظ على الهوية الفلسطينية وتأكيدًا أكبر للذات والثقة في النفس. وأنا أعتقد أن حزب "التجمع الوطني الديمقراطي" الذي أنشئ عام 1994 فرض على الساحة نهجًا أكثر صدامية، وفرض تناقضًا بين معركة المساواة والصهيونية، وهذا هو الذي أدى لتصادم عرب الداخل مع قوات الشرطة الإسرائيلية وحرس الحدود، واستشهاد 13 مواطنًا منهم في أكتوبر الماضي رغم كل التهديدات الإسرائيلية.
مواطنة بدون أسرلة
* حقيقة.. نحن لا نفهم كيف تطالب كقومي عربي بالمواطنة في دولة إسرائيل بدلاً من المطالبة بتحقيق الوحدة العربية؟
- للأسف فإن المواطنة كان يجب أن تكون جزءًا من المفهوم القومي العربي، ولكن بُعد العالم العربي عن الديمقراطية والليبرالية والحرية وحقوق الإنسان هو الذي أدى لهذا التفتت، وهذه أحد أسباب أزمة الفكر العربي. فأهم شيء هو مخاطبة هموم الجماهير وحقوق المواطن العربي، وإذا تم تأجيل الحقوق -حتى تحقيق الوحدة العربية- فلن نصل إلى شيء؛ لأن المشروع القومي العربي هو مشروع "دمقرطة المجتمع القومي العربي".
* وهل هذا مبرر لاستبدالها بالمطالبة بالمواطنة في دولة إسرائيلية؟!
- للأسف فإننا نتناقض حاليًا، حين نتحدث عن المواطنة الإسرائيلية. فنحن مضطرون للتعامل مع مواطنة فرضت علينا ولم نخترها، مع وضع قائم لم يكن لدينا خيار فيه. فأنا ولدت بعد النكبة في عام 1956 كمواطن في دولة إسرائيل، وكان عليّ ألا أحول المواطنة الإسرائيلية إلى عملية أسرلة تزيل الهوية والقومية. ومن هنا أتينا بمفهوم "دولة المواطنين" لمنع المساواة أن تتحول إلى اندماج أو ذوبان أو أسرلة. فالدولة العبرية لن تنجز المساواة طالما هي دولة يهودية، ونحن أزلنا مفهوم أن المساواة والصهيونية يمكنها التعايش معًا؛ فالعمل في إطار المواطنة هو وضع قائم، ولكن المسألة هي كيف نحول تناقضاته من قوة هادمة إلى قوة دافعة.
* وكيف تستطيعون تحقيق هذه المعادلة المستحيلة؟!
- كان هناك قسم أساسي من التجمع الوطني الديمقراطي يقاطعون الانتخابات في إسرائيل ويطالبون بتحرير فلسطين، ولكنهم كانوا بعيدين عن الهموم اليومية للناس؛ لذلك لم يحصلوا على الشعبية. ولذلك اهتممنا بهموم المواطنة مع التمسك بمنع الأسرلة؛ فالناس لا تتغذى على مجرد الشعارات؛ بل تريد دخول الجامعات، والحصول على بيوت، وإعادة البيوت المصادرة، والحصول على عمل.. فأدوات الصراع هي -شئنا أم أبينا داخل إسرائيل- هي الكنيست والاستجوابات والمحاكم. وكان هدفنا هو الإجابة عن السؤال: "كيف نمنع الصهينة والأسرلة؟!" من هنا أنشأنا التيار الوطني الذي يسعى للحصول على الحقوق المدنية بلا تنازل عن هويتنا الوطنية.
كفوا عن مهاجمة عرب الداخل!
* د. عزمي .. كثيرون من المواطنين العرب لا يفهمون كيف يكون الشخص فلسطينيا أو إسرائيليا في نفس الوقت.. وهل أنتم عرب الداخل.. أم عرب إسرائيل.. أم فلسطينيو 48 .. أم ماذا؟
- لقد فتح هذا النقاش مع ازدياد قوة دور العرب في الداخل، وهذا في ذاته أمر إيجابي.. ولكن أحيانا يتداخل التفكير مع الديماجوجية الناتجة عن جهل. فللأسف الشديد يتم التعامل مع عرب الداخل بالازدواجية الشهيرة خير أم شر، صح أم خطأ، حلال أم حرام، فحتى معظم العلمانيين وأتباع التيار القومي فعلوا ذلك أيضا. لكن القوميين العرب أنفسهم ليسوا قديسين، منهم قد تعاملوا مع الدولة القطرية وقبلوا "سايكس بيكو" ودخلوا الوزارات وتخلوا عن قوميتهم، ثم عادوا إلى القومية بعد خروجهم من الوزارات.
لذلك يجب التعامل مع عرب الداخل كما يتم التعامل مع العرب في الأردن أو مصر أو أي دولة عربية أخرى، خاصة أن تيارنا نفسه كان ولا يزال ضد معاهدة كامب ديفيد التي لا تلبي الطموحات العربية!
* ولكن بعض العرب يرون أن التعامل معكم يعد نوعا من التطبيع!!
- التعامل معنا أمر طبيعي.. وليس تطبيعا، ونحن لا نحتاج إلى أحد يعطينا شهادات لا من حيث النضال ولا التضحية؛ فنحن فعلا "القابضون على الجمر" حيث تحملنا ما لم يتحمله أحد، وحافظنا على هويتنا الفلسطينية وقوميتنا العربية، بينما ماتت الفكرة عند الكثيرين داخل الدول العربية نفسها. فالأكثر طبيعية أن يتم التعاون والتقارب بين الدول العربية.. مثل زيارتنا إلى سوريا منذ عامين فقط، رغم أنه كان قد قابل جميع التيارات السياسية الإسرائيلية من قبل، وكان المفروض أن يحدث العكس.
* ولكنك حلفت يمين الولاء لدولة إسرائيل…
- الغريب أن الإسرائيليين أنفسهم يرون أن عزمي بشارة لا يجب أن يكون في الكنيست؛ لأنه ليس له ولاء لدولة إسرائيل. فهم يقولون بأن ولاءه مشبوه، ويضحك علينا بقسم يمين الولاء للقانون الإسرائيلي، ثم يتصرف بشكل مخالف للقانون. ولكن يمين الولاء هنا نوع من قبول "حلول الوسط" تماما مثل الشيوعيين الذين دخلوا البرلمانات البرجوازية وهم يرفضون تلك الأنظمة وقوانينها. وهذا ما أدى إلى نشوء الاشتراكية الديمقراطية.. ونحن نستطيع رفض دخول الكنيست، ولكن هل نستطيع التخلص من بطاقة الهوية الإسرائيلية، وجواز السفر والتصويت وقسم المحاماة والحصول على التراخيص والعلاج والتعليم والعمل؟
* ما هي طبيعة علاقتكم بالتيارات الفلسطينية والعربية المختلفة؟
- نحن لدينا علاقات ممتازة مع جميع التيارات العربية، فلدينا حوار مع حركة حماس وكذلك التيارات الإسلامية الأخرى، بالإضافة إلى الفصائل الوطنية العربية القريبة من الفكر القومي الناصري. كما أن لدينا علاقات وثيقة مع سوريا، حتى أن تلك العلاقات ساعدتنا على تقريب وجهات النظر الفلسطينية السورية مؤخرا.
"إرهابنا" غير "إرهابهم"
* من أهم أسباب رفع الحصانة عنك اتهامك بتأييد الإرهابيين.. خاصة بعد 11 سبتمبر ما هو تعليقك؟!!
- هذا كلام فارغ، فبالإضافة لعدم صحة هذه الاتهامات قانونيا، فإن تعريفنا لمفهوم الإرهاب يختلف تماما عن تعريفهم.. فنحن نعتبر مقاومة الاحتلال أمرا مشروعا، والانتفاضة أحد أشكال المقاومة.. كما أن دعوتنا للعرب بوجوب دعم الانتفاضة نعتبره "أضعف الإيمان".. فقد اتبعنا خيارا سميناه "خيار المقاومة".. وهو حل وسط بين الانجرار إلى حرب شاملة، أو قبول الاستسلام للاءات الإسرائيلية.
* وماذا عن اتهامك بخيانة إسرائيل والتعامل مع دول معادية؟!
- التهم الإسرائيلية التي وجهت لي تهم تلفيقية، وهي ذات دوافع وأهداف سياسية.. فليس الهدف فقط عزمي بشارة.. بل نحن نُستهدف كتيارات وقوى سياسية عربية مناضلة، تمثل خطورة على إسرائيل؛ لأنها تمثل الهوية العربية الصامدة لعشرات السنين رغم كل وسائل التهويد والأسرلة، كما أنهم يسعون لطرد هذه التيارات خارج البلاد بعد النجاح الذي حققته. فهو سيناريو إسرائيلي مدروس يبدأ برفع حصانتي ثم يليه ما هو أخطر.
* وكيف ستقومون بمواجهة هذه الإجراءات؟
- سنقوم بثلاث طرق: أولا جماهيريا سنقوم بتنظيم وتعبئة شعبنا في الداخل لتأييدنا، ليعرف العالم كله أننا نقوم بتمثيل شعبنا والتعبير عن رغباته وحقوقه.
ثانيا قضائيا من خلال تأسيس دفاع قضائي محكم عن طريق محامين عرب، بالإضافة إلى حاجتنا للاستعانة بخبراء أجانب.
ثالثا دوليا.. حيث سنتجه للساحة الدولية.. ونثبت زيف ديمقراطية إسرائيل. فقد أدى قرار برلمانهم إلى تحويل الديمقراطية الليبرالية إلى ديمقراطية سياسية عنصرية هدفها تحجيم وتمزيق الهوية الفلسطينية، وإثبات أن إسرائيل لا تمارس فقط نظام الأبارتهايد "الفصل العنصري" في مناطق الضفة والقطاع تماما (كحكومة التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا) بل إنها أيضا تمارس ذلك حتى داخل إسرائيل نفسها!
* د. عزمي كلمة أخيرة توجهها للمواطنين العرب في جميع أنحاء العالم.
- أنهي حديثي مؤكدا.. أننا نحن الذين نعيش في داخل الأرض.. "القابضون على الجمر".. حيث نعيش تناقضات وجودية هائلة، فنحن نعرف نقاط ضعف هذا البلد، ونعرف كيف يفكرون، وكيف يمكن التعامل معهم. وقد استطعنا رغم الظروف القاسية أن نحتفظ بهويتنا وقوميتنا وديننا.. ونحن نضع كل آمالنا في جيل الشباب الذي واجه الشرطة الإسرائيلية بصدوره العارية ودفع حياته ثمنا للانتفاضة.. التي لن نسمح بهزيمتها أبدا.
إسلام أونلاين