أكّد المفكّر العربي عزمي بشارة أنّ الأحداث "العظيمة" التي تشهدها فلسطين هذه الأيام تعطي النكبة معناها الصحيح وراهنيّتها.
وأشار الدكتور بشارة، في حديث إلى "العربي"، إلى أنّ العقلية التي هجّرت الفلسطينيين من أراضيهم عام 1948، هي نفسها التي تسود في الوقت الراهن، متحدّثًا عن عملية "تهويد" جارية للقدس، بهدف تحويل المقدسيين إلى أقلية محاصرة في المدينة.
واعتبر مدير "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" أنّ الحالة المسلحة في غزّة هي حالة دفاع عن النفس، مشيرًا إلى أنّ فصائل المقاومة في غزة بعثت رسالة قوية بأنها ليست منفصلة عن قضايا شعبها.
ورأى أنّ قدرة الفصائل في غزة على تعزيز قدراتها العسكرية بهذا الشكل في ظلّ حصار وصفه بـ"غير المسبوق في التاريخ"، أمر مثير للإعجاب.
وإذ لفت إلى أنّ النضال الفلسطيني هو الذي أجبر الرئيس الأميركي جو بايدن على الاتصال بنظيره الفلسطيني محمود عباس، شدّد على وجوب الذهاب إلى مقاربة جديدة، خصوصًا بعدما ثبُت أنّ كلّ المسار المتّبَع منذ أوسلو فشل ولم يحقق شيئًا.
وأشار في هذا السياق إلى وجوب إلغاء التنسيق الأمني مع إسرائيل أيًا كانت التبعات، داعيًا إلى إعادة الحياة إلى منظمة التحرير، أو بناء مؤسسة جديدة، تكون السلطة الفلسطينية خاضعة لها، وليس العكس.
ولم يستبعد بشارة إمكانية الذهاب لوقف إطلاق نار في غزة، على أن يسري "في الثانية نفسها" على الجميع، وفقًا لشروط المقاومة، مرجحًا أن تتبع المفاوضات وقف النار، لا أن تسبقه، معتبرًا أنّ النضال المدني الذي رأى أنه يجب أن يستمرّ، يبقى الضمانة الوحيدة.
وفيما أشاد بانتفاضة الضفة الغربية، مشدّدًا على وجوب استمرارها أيضًا، استغرب إلغاء الانتخابات الفلسطينية، واصفًا حُجّة القدس التي استُخدِمت لتبرير التأجيل بالواهية والفارغة.
ومن الربط بين التطورات الجارية في فلسطين وذكرى النكبة، انطلق د. بشارة في حديثه إلى "العربي"، مشيرًا إلى أنّ فلسطين تشهد في كل أرجائها أحداثًا عظيمة تعطي النكبة معناها الصحيح وراهنيّتها.
وأوضح أنّ راهنية النكبة تنطلق من أمر أساسيّ يدركه أهالي غزة كما أهالي حي الشيخ جراح جيّدًا، وهو أنهم لاجئون منذ عام 1948، شارحًا أنّ غزة هي في الحقيقة مخيم لاجئين كبير.
وأشار إلى أنّ من يريد أن يتحدّث عن حلول سياسيّة للقضية الفلسطينية يجب أن يعود إلى الأصل، ذلك أنّ من يبدأ من مرحلة ما بعد احتلال 1967 سيقدّم تنازلات، علمًا أنّ الشعب الفلسطيني يعيش اليوم على 22 في المئة من أرض فلسطين التاريخية.
ولفت إلى أنّه في 15 مايو، اليوم الذي أعلِنت فيه دولة إسرائيل من طرف واحد، بدأت إسرائيل عمليًا في التطهير الإثني قبل أن تدخل الجيوش العربية، بمعنى أنّ العرب هُجّروا من بيوتهم بالمذابح والتهجير القسريّ.
وفي هذا السياق، تحدّث بشارة عن سلسلة "أساطير" غير صحيحة يتمّ الترويج لها، أولها أنّ الفلسطينيّين هربوا، في حين أنّ عملية التهجير حصلت أصلًا قبل 15 مايو/ أيار.
أما الأسطورة الثانية والكاذبة، وفقًا لبشارة، فهي أنّ العرب طلبوا منهم الخروج، مشدّدًا على أنّ هذا الأمر غير صحيح ولا يوجد أي إثبات عليه.
وتطرّق إلى أسطورة ثالثة تلقى أيضًا رواجًا، وهي أنّ إسرائيل تمثّل القلة مقابل الكثرة، معربًا عن اعتقاده بأنّ العرب في كلّ الحروب كان عددهم أقلّ، من دون أن ننسى التفوّق الإسرائيلي بالسلاح والعتاد.
وأشار إلى أنّ الإرداة لخوض حرب لم تكن متوفرة سوى في مرات معدودة، وأيضًا لأهداف سياسية. ولفت إلى أنّ "المقاومة في غزة تخوض حربًا غير متكافئة لناحية العدد والعدة، ولكنّها تتبع أساليب تمكّنها من التغلب على عدم التكافؤ، وتمنحها قدرة على التحمّل أكثر من الخصم".
وفيما لفت د. بشارة إلى أنّ النكبة انتهت بتشريد 800 ألف فلسطيني من بيوتهم، وهدم أكثر من 425 قرية، استغرب المنطق الإسرائيلي الداعي لإخراج الناس في بيوتهم لإحلال مستوطنين مكانهم.
وذكّر في هذا السياق بأنّ هؤلاء المستوطنين سكنوا أصلًا في بيوت عرب، إذ إنّ ما سمّي بالمهاجرين من دول أوروبا الشرقية أسكِنوا في بيوت عربية، متسائلًا لماذا لا تمنح المحاكم العرب الحقّ باستعادة بيوتهم.
ولفت إلى أنّ جزءًا من أصحاب هذه البيوت يعيش في إسرائيل، أي أنهم "مواطنون"، أو في القدس، كأبناء حي الشيخ جراح، وهؤلاء بالتأكيد لديهم بيوت في حيفا ويافا والقدس الغربية، متسائلًا: "لماذا لا تعاد لهم هذه البيوت".
وخلص إلى أنّ مسألة النكبة راهنة جدًا، موضحًا أنّ العقلية التي هجّرت الفلسطينيين من بيوتهم عام 1948 هي نفسها التي تسود اليوم، لافتًا إلى أنّ المؤرخّين الإسرائيليين نفسهم يعترفون بهذا الأمر.
وشدّد د. بشارة على أنّ أرض فلسطين صودرت واحتُلّت بالقوة، لافتًا إلى أنّ بيع الأراضي لا يقيم دولًا، واصفًا مثل هذا الكلام بأنّه "فارغ ولا يستحق الرد".
وإذ أكّد أنّ الشعب الفلسطيني صمد على أرضه حيث ناضل وكافح، لفت إلى عوامل كثيرة أدّت إلى عدم قدرته على المقاومة عند احتلال أرضه، من بينها التفوق الإسرائيلي، وتطوع آلاف الجنود اليهود في الجيش البريطاني، فضلًا عن كون الشعب الفلسطيني وصل منهكًا من ثورة ثلاث سنوات.
لكنّ بشارة لفت إلى أنّ الشعب الفلسطيني "منذ ذلك الحين وبسرعة استعاد أنفاسه وأقام مؤسساته وأصبح رمزًا"، إلا أنّ "مشكلته الكبرى أنه تورط مع المسألة اليهودية في أوروبا ومع المسألة العربية التي تشابكت مع القضية الفلسطينيّة إيجابًا وسلبًا".
واعتبر د. بشارة أنّ قضية فلسطين آخر قضية استعمارية، مميّزًا في هذا الإطار بين الاستعمار العادي والاستعمار الاستيطاني الذي مورس على فلسطين.
وشرح أنّ الاستعمار العادي هو حين يقول المحتلّ "أنا أحتلك لكي تعمل عندي"، في حين أنّ الاستعمار الاستيطاني هو حين يقول: "أحتلك لكي تذهب وأحلّ مكانك، أي أنني لا أريد أن تعمل عندي".
وأشار إلى أنّ هذه العقلية هي التي طبعت السلوك الإسرائيلي منذ البدء، باستثناء حالة لم تطل كثيرًا هي الاحتلال المباشر للضفة الغربية، إذ إنّ الإسرائيلي أراد منذ البداية أن يحل محل السكان ويهوّد المكان.
وشدّد على أنّ ما تشهده القدس عملية تهويد، لافتًا إلى أنّ الإسرائيليين أنفسهم كانوا يستخدمون هذه الكلمة ثم خجلوا من دلالاتها العنصرية وأصبحوا يقولون "تطوير".
وأشار د. بشارة إلى أنّه، وفق التعريف الإسرائيلي، يُعتبر بناء المستوطنات "للصالح العام"، وبالتالي لا يمكن مقاومتهم قانونيًا، مشيرًا إلى أنّهم في القدس مثلًا، أقاموا مستوطنات حول المدنية، لكنهم قبل ذلك قاموا بعمل عجيب، عبر توسيع مساحة بلدية القدس.
ولفت إلى أنّهم أطلقوا عليها تسمية القدس، التي صنّفوها "عاصمة إسرائيل الأبدية"، وبعد ذلك بدأوا يحيطون الأحياء العربية بالمستوطنات، معتبرًا أنّ الهدف واضح، وهو تحويل القدس العربية إلى غيتو.
وتحدّث في هذا السياق عن نشاط أساسي لبعض الجمعيات الاستيطانية من خارج فلك الحكومة، ولكن بتمويل من متمولين كبار في الحكومة، يؤدي إلى إقامة بؤرة استيطانية في الأحياء العربية لإزعاج السكان وتهجيرهم، "وهذا العمل يتمّ بمباركة الحكومة".
واعتبر أنّ هؤلاء أسوأ من الناس الذين تظاهروا في الكونغرس لصالح الرئيس السابق دونالد ترمب، لكونهم قتلة حقيقيّين لكن داخل الكنيست لا الكونغرس، وقد امتدت أياديهم الآثمة للاعتداء على السكان الآمنين في المناطق العربية.
وبالانتقال إلى المواجهة الأخيرة في فلسطين، اعتبر د. بشارة أنّ هناك تساؤلًا مشروعًا حول ما إذا كان إخلاء أربع منازل من ساكنيها دافعًا كافيًا لإسرائيل لخوض حرب، إلا أنّه اعتبر أنّ القضية هي بالنسبة إلى الإسرائيليين قضية مبدأ.
وأوضح أنّ القوانين الإسرائيلية قائمة على مصادرة ممتلكات الفلسطينيين، مشيرًا إلى أنّ السرقة عرف إسرائيلي، وأنّ بنية الدولة الإسرائيلية تقوم على التوسع والاستيطان، ولذلك فإنّهم يريدون فرض الأمر، لأنّه إذا تم المس في مفهوم السرقة الذي يقومون به اليوم، سيُقال أن كل ما قاموا به في السابق هو سرقة.
ولفت إلى أنّ البعض يسأل عمّا يريده الإسرائيليون بعدما أقاموا دولة وامتلكوا سلاحًا نوويًا وجيشًا يُعَدّ الأقوى في المنطقة، فضلًا عن اقتصاد قوي، مردفًا: "إنها ثقافة سياسية، فهم لا يستطيعون التوقف عن التوسع".
وأضاف أنّهم لا يريدون القبول بدولة فلسطينية، وفي الوقت نفسه لا يريدون التعامل مع المواطنين العرب كمواطنين متساوي الحقوق في دولة واحدة بحيث يسري على العربي ما يسري على اليهودي في إطار المواطنة، وإنّما يريدون البقاء في حالة صراع مع المحيط.
وشدّد على أنّ العرب الفلسطينيين لم يكونوا أبدًا معادين لليهود، لافتًا إلى أنّ العداء للسامية ظاهرة أوروبية "صدّروها لنا وأسقطوها علينا، وأصبح هذا مريحًا لهم أن يتهموا العرب بها، لكنّ الشعب الفلسطيني لم يكن في يوم من الأيام معاديًا لليهود، بل تعايش معهم".
وذكّر بأنّ العالم العربي بأسره قدم لهم مبادرة سلام لكنهم رفضوها وبدأوا يضعون الشروط، متحدّثًا في هذا السياق عن "صلف وغرور في التعامل وتمسك بالنزعة الاستيطانية". وقال: "هذا جنون ومن حقنا أن نغضب ونرد كعرب وبشر وديمقراطيين وأصحاب أرض".
وعلى خطّ التطورات الأخيرة في المسجد الأقصى، لفت د. بشارة إلى أنّه، حتى فترة قريبة، كان يُعتقد أن الهدف هو السيادة فقط، بمعنى أن المسجد جزء من القدس التي يريدونها تحت سيادتهم، بمعنى أنّه ليست لديهم مشكلة معه كمسجد وحرية صلاة، لا سيّما وأنّ هناك مساجد في إسرائيل.
لكنّه أشار إلى أنه طوال العقدين الأخيرين، بدأت تنشط جمعيات تريد أن تفرض على المسجد الأقصى، كمرحلة أولى، المشاركة في الصلاة، كما فعلوا في الحرم الإبراهيمي، لافتًا إلى أنّهم نجحوا في الحرم الإبراهيمي للأسف بعد قتل المصلّين سجّدًا، "وواضح من كثرة تكرار اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى أنهم يريدون أن يعوّدونا أنّ هذا أيضًا لهم".
وحذر من أنّ "هناك مجانين من هذا النمط في حكومة إسرائيل وأيضًا هوس في نظرتهم الدينية"، مستهجنًا كيف أنّ "قسمًا كبيرًا من الغرب عندما ينطلق بكلمة أصولية دينية أو سلفية، يقصد المسلمين"، متسائلًا: "ما الذي يفعله هؤلاء، سوى توريط شعبنا في صراع منطلقه الهوس الديني، من خلال الاستفزاز المستمر".
وإذ أعرب عن اعتقاده بأنّ الموضوع لم يعد مجرد فرض سيادة، بل ارتقى ليصبح عبارة عن هوس ديني، شدّد على أنّ هذا الهوس بات الآن راسخًا في قلب الحكومة الإسرائيلية. ولفت إلى أنّ الأمر ليس جديدًا، إذ إنّه منذ عام 1977، بدأ يدخل إلى الحكومة الإسرائيلية أناس لديهم موقف ديني في الصراع، بمن فيهم الناس الذين يقومون بالاستفزازات في المسجد الأقصى.
وأشار بشارة إلى أنّ أحدًا لا يعرف سبب تفجّر الصراع اليوم وليس أمس مثلًا، معتبرًا أنّ البحث عن سبب لتوقيت الظواهر ليس مجديًا، لكنّه أعرب عن اعتقاده بأنّ السبب المباشر يبقى تراكم الاحتقان، خصوصًا في ضوء التطورات المتلاحقة الأخيرة.
ولفت في هذا الإطار إلى وجود ما وصفه بالشعور بـ"الإهانة والإذلال"، محمّلاً الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب المسؤولية من خلال سياساته التي راكمت احتقانًا كبيرًا داخل المجتمع الفلسطيني، متحدّثًا عن شعور وطني حقيقي في الداخل دفع باتجاه التضامن مع الأقصى.
ولفت إلى أنّ ما يسمى العناصر المعتدلة أضعِفت وأهمِلت وهُمّشت، وهو ما أدّى إلى ما حصل من تحرّكات أخيرًا في محيط المسجد الأقصى. وقال: "لا أستطيع أن أجزم أنها كانت ستصبح انتفاضة لكن كان من الواضح أنّ هناك غضب شعبي دفع للتضامن مع القدس والأقصى".
وإذ أكد د. بشارة أنّ التهديد لا يزال قائمًا، لفت إلى أنّ كلّ هبّة نضالية حقيقية تحدث نشوة، وأنّ هذه النشوة هي فعل سياسي بالدرجة الأولى، متحدّثًا عن تضامن حقيقي وشعور بالكبرياء مردّه أن الشعب الفلسطيني قادر على المقاومة.
لكنّه لفت إلى أنّ "البنى القائمة لا تتغير في أسبوع، وبالتالي من المبكر الحديث عن انتصارات، خصوصًا أنّ هذه عملية طويلة"، جازمًا في الوقت نفسه بأنّنا في "مرحلة جديدة لناحية قدرات الشعب الفلسطيني على التحدي والبناء".
وإذ لفت إلى ضرورة إيجاد توازن بين عيش الإنسان حياة لائقة وكريمة من دون التنازل عن الموقف الوطني، شدّد على أنّ هذا النوع من المعارك لا يتجزّأ، ولو أنّ ظروف كل جزء من الشعب الفلسطيني مختلفة. وأوضح أنّ "القضية واحدة وبالتالي، يجب أن يكون هناك نوع من تقسيم العمل في النضال".
وقال: "حبذا لو كان هناك مؤسسة أو منظمة تنسق هذا كله وتضع استراتيجيات لهذا كله ليكون الشعب الفلسطيني في الداخل جزءًا من هذه الاستراتيجية الكبيرة".
ولفت د. بشارة إلى أنّ عرب الداخل عانوا تحت الحكم العسكري حتى عام 1966، أي أنّه قبل سنة واحدة من احتلال الضفة الغربية رُفِع عنهم الحكم العسكري، مذكّرًا بأنّه في يوم الأرض سقط لهم ستة شهداء في النضال ضد مصادرة الأرض، كما أنّهم تضامنوا في الانتفاضة الأولى، وفي الانتفاضة الثانية سقط لهم 13 شهيدًا، وكانوا جزءًا من المعركة في الأيام الأولى.
وأشار إلى أنّه يجب أن يكون الإنسان واقعيًا لكي يتمكن من الاستمرار في النضال الوطني، ولكي لا يقوم المرتدّون لاحقًا بتحويل هذه العملية كلها إلى نوع من الأسرلة، كما حصل بالسلطة الفلسطينية بعد الانتفاضة الثانية.
وفي هذا الإطار، شدّد على وجوب استمرار النضال المدني في قضية حي الشيخ جراج ضد مصادرة البيوت وإحلال مستوطنين فيها، مشيرًا إلى أنّ "هذه العملية يجب أن تستمرّ وأن تُنظَّم وأن لا تتوقف".
ولفت د. بشارة إلى أنّ حصول اتفاق لوقف إطلاق النار لا يجب أن ينهي كلّ شيء، "فالنضال ضد سياسات الاستيطان والإحلال يجب أن يكون متواصلًا ومنظَّمًا".
واعتبر د. بشارة أنّ على النخب الفلسطينية أن تفهم أنّ الطريق الذي ساروا به حتى الآن، تحديدًا منذ أوسلو، فشل، مشيرًا إلى أنّهم يجب أن يدركوا أنّ الطريق القائم على مناشدة وتوسّل إإسرائيل لتعطينا بعض الحقوق والتنسيق الأمني وغيره لم يحقق شيئًا.
وشدّد على وجوب حصول قناعة لدى النخب الفلسطينية السياسية عمومًا، بأنّ المطلوب إما إعادة منظمة التحرير إلى الحياة أو بناء مؤسسة جديدة تجمع كل قطاعات الشعب الفلسطيني وكل طاقاته ليدرك أن هناك معركة واحدة متعلقة بطبيعة النظام الذي يعيش كل الشعب الفلسطيني في ظله.
ورأى أنّ هذه العملية تتطلب استراتيجية نضالية مدنية على المدى البعيد، مشدّدًا في الوقت نفسه على أنّ هذا لا ينفي إطلاقًا حق غزة في الدفاع عن نفسها، "لكن، على المدى البعيد على مستوى الصراع مع إسرائيل، هذه المعركة يجب أن تخاض بخطاب ديمقراطي أيضًا".
واعتبر أنّ الانتفاضة التي تحصل الآن في الضفة مهمة جدًا ويجب أن لا تكون مجرد تكتيك لتمرير الوقت أو للتنفيس، بحيث تذهب الناس إلى الحواجز ويستشهد منها البعض، ثم نعود إلى ما كنا عليه.
وتوجّه إلى القيادات الفلسطينية عمومًا متسائلًا عمّا يخسروه من ذلك، داعيًا في هذا الإطار إلغاء التنسيق الأمني، "وليحصل ما يحصل، وحتى لو دخلت إسرائيل فهي لن تبقى، ولكن ستفرض نفسك كسلطة تدير شؤون الناس بدون تنسيق أمني".
وشدّد على أنّ أحدًا لا يذكر الرئيس الراحل ياسر عرفات (أبو عمار) على سبيل المثال بوصفه رئيس السلطة، بل كرئيس منظمة التحرير ورئيس حركة فتح، مذكّرًا بأنّ الانتفاضة الأولى المدنية هي التي فرضت الحديث عن منظمة التحرير.
وأشار إلى أنّ النضال الفلسطيني الحالي هو الذي أجبر الرئيس الأميركي جو بايدن على الاتصال بالرئيس محمود عباس، بعدما كان بايدن رافضًا لذلك.
واعتبر بشارة أنّ فصائل المقاومة في غزة أرسلت رسالة قوية بأنها ليست منفصلة عن قضايا شعبها، وأثبتت أنّها ليست إمارة مفصولة عن غيرها كما يحاول البعض أن يصوّرها، مع أنّ حصار غزة وما يخلّفه من مصائب عليها يكاد يكون كافيًا.
وإذ أقرّ بأنّ البعض قد يشك في الدوافع لكن الأهمّ يبقى في النتائج، داعيًا إلى الالتفات إلى مسألة أخرى في غاية الأهمية، وهي كيف أنّ هناك من استطاع، في ظلّ حصار خانق غير مسبوق في التاريخ، أن يبني قوة مقاتلة من هذا النوع.
واعتبر أنّ هذا الأمر يثير الإعجاب بكلّ موضوعية وبمعزل عن كل شيء، "ويجب أن ترفع القبعة لهم على ذلك".
من جهة ثانية، أشار د. بشارة إلى وجود جانب عنصري في طريقة تعامل الجيش الإسرائيلي مع المدنيين في غزّة، من منطلق أنهم ليسوا بشرًا، وهو ما يسري أيضًا على الغرب، الذي عندما يتحدث عن مدنيين، يقصد الإسرائيليين.
واستغرب منطق الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يقول إنّ من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها وأن حماس منظمة إرهابية. وقال: إذا كان هذا التصنيف عائدٌ إلى طبيعة الفعل، وهو قتل المدنيين، فإنّ إسرائيل تقتل مدنيين أكثر بكثير، أما إذا كان يرجع إلى هوية الفاعل، فنصبح أمام تصنيف غير موضوعي.
ولفت إلى أنّ كل الحالة المسلحة لغزة هي حالة دفاع عن النفس، مشيرًا إلى أنّ حصار الناس وتجويعهم وابتزازهم بالطب والكهرباء والطاقة والطعام يكفي لكي يثور الناس، منبّهًا إلى أنّ الأوضاع في غزة لا تُطاق، في ظلّ تواطؤ عالمي يسكت على ما يحصل.
ورأى أنّ الحل يجب أن يكون حلاً سياسيًا، متحدّثًا عن فارق قد يكون موجودًا بين مقاربة بايدن وترمب، الذي لو كان اليوم في الحكم، لشجّع إسرائيل على الضرب أكثر، "ولكننا نعلم أن الفارق في قضية فلسطين يحتاج لميكروسكوب لرصده".
ولفت إلى تاريخ بايدن مع الإسرائيليين، وهو صاحب عبارة أنّه ليس من الضرورة أن تكون يهوديًا لتكون صهيونيًا، مشيرًا إلى أنّه تعرّض على مدى 40 عامًا في الكونغرس للوبي الصهيوني، من قمة رأسه إلى أخمص قدميه. وقال: "نحتاج إلى وقت ليظهر الفرق لكن بالتأكيد الآن هو مع إسرائيل".
وفي سياق آخر، توقف بشارة عند فريق في الخارجية الأميركية كان دائمًا يشكّل قوة ضغط على الإدارة لجهة أنّ التحالف مع إسرائيل يؤذيها، "لكن هؤلاء باتوا ضعيفين جدًا الآن لأن الحكام العرب صادروا منهم هذه الحجج، حتى أنّ البعض يعتبر أن حماس هي العدو وليس إسرائيل".
وأشار إلى أنّه لم يعد في أيدي هؤلاء قدرة على الضغط، لكنّه رأى أنّه عندما تتحرك الشعوب تتغير الأمور، وهذا أمر مهم أيضًا، وبالتالي لا يمكن أن يجلس الشعب الفلسطيني وينتظر النجدة، لافتًا إلى أنّ الشعوب هي التي تهدد بعدم الاستقرار.
وشدّد بشارة على أنّ شكل إسرائيل في العالم، بهذا القصف الرهيب والجرائم التي ترتكب، أصبح قبيحًا جدًا حتى في نظر الغرب.
وجدّد د. بشارة دعوته إلى وجوب تشكيل هيئة جديدة تنظّم الأمور، تكون شبيهة بمنظمة التحرير، بحيث لا تعود أداة عند السلطة الفلسطينية تستخدمها كما تشاء، بمعنى أنّ السلطة هي التي تخضع لها وليس العكس.
وتوقف عند موضوع إلغاء الانتخابات، مذكّرًا بأنّه كان يعتبر الانتخابات بحدّ ذاتها عملية هروب إلى الأمام، خصوصًا أنه تمّ تصويرها وكأنّها مَدخَل إلى الوحدة، في حين أنّ العكس هو الذي يجب أن يحصل.
ورفض الحُجّة التي أعطيت لإلغاء الانتخابات لجهة منع إسرائيل إقامتها في القدس، معتبراً أنّه كان يمكن وضع صناديق في الأحياء، "ولتأتِ الشرطة الإسرائيلية وتمنع الانتخابات، فهذه كانت أفضل صورة يمكن تقديمها للعالم".
لذلك، اعتبر هذه الحُّجة واهية وفارغة ومعيبة، معربًا عن أمله في أن يتّعظوا من الوضع، داعيًا القيادات إلى أن تدرك أنّ هذا الطريق حتى الآن لم يقد إلى شيء وأنه يجب إحداث تغيير في المسار.
وختامًا، لم يستبعد بشارة إمكانية التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار، لكن على أن يسري "في الثانية نفسها" على الطرفين، وإلا فإنّ المقاومة لن تقبل.
وأشار إلى أنّه لم يعد لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شيء ليحققه، وهو يدرك أنّ تحقيق إنجازات استراتيجية على مستوى تسلح حماس غير ممكن، وكلّ ما يفعله الجيش الإسرائيلي الآن هو استهداف بيوت آمنة في مخيمات.
وعن السيناريو الذي يتصوّره، لفت إلى أنّه من الممكن الذهاب إلى وقف إطلاق نار قد تتبعه مفاوضات بوسطاء وليس العكس، مشيرًا إلى أنّ حركة حماس ستطرح موضوع الأقصى وبيوت القدس وغيرها من الأمور.
لكنّه سأل عن "ضمانات" التزام إسرائيل بأيّ اتفاق، لافتًا إلى أنّ فصائل المقاومة قد تلوّح بإعادة إطلاق الصواريخ في حال عودة الانتهاكات. إلا أنّه شدّد على أنّ الضمان يبقى النضال المدني الأهلي الذي تجلى في القدس، مشيرًا إلى أنّ فصائل المقاومة تدعم هذا المسار.
وشدّد كذلك على وجوب استمرار الانتفاضة في الضفة، محذّرًا من أن الحكومة الإسرائيلية المقبلة ستكون أكثر يمينية من الحالية، "وبالتالي فلا طريق أمامهم سوى النضال، حتى لو تمّ تحقيق إنجازات في المفاوضات".
المصدر: التلفزيون العربي