كمال طيرشي
تعرف الأسطورة لدى العرب بأنها حادثة مجازية مقدسة كان أرباب الحضارات السالفة يعتقدون بها على أنها كتبهم المقدسة، ويعتبرها المفكر العربي عزمي بشارة التعبير المعرفي الأولاني عن المقدس، فمن خلالها يتواشج ماهو دنياني مع ماهو مقدس، قبل أن يعلنا الانفصال بينهما عن طريق الوعي، وتمتاز الأسطورة بعدم تعالقها بالزمن، فهي تستمر في مخيال الشعوب مفعمة بالدلالات والمفاهيم والتآويل التي تتجاوز المنحى الظاهري للتفسير، لتنحو إلى ضرب التأويل وتركن إليه، وحينما نتعمق في دلالات الأسطورة نجد بأنها التمظهر الأكبر لطموح البشرية بغية الجواب على سؤال: "لماذا؟"، وهو سؤال ميتافيزيقي يبحث في الغايات القصوى والأسباب العليا، وتعتمد الأسطورة آليات وسائل تساعدها في سبيل البحث عن الإجابات الممكنة، ومن هذه الوسائل: الخيال، الرموز، والحدس العرفاني والإشراق.
وبهذا تكون الأسطورة هي التجلي الأول للمعرفة الدينية، أما التجلي الثاني لهذه المعرفة فهو يتمظهر في العقيدة الدينية باعتبارها الاستيثاق الجازم المطابق للواقع والذي لا يغالبه الظن أو الشك للمعرفة الدينية، كما أننا نجد بأن جوهر التجلي للعقيدة الدينية له حمولة أسطورية للعالم، بحكم أن المقاربات اللاهوتية التي جابهت الوعي البشري في محاولة تفسيره للعالم في بدايات تشكله هي الطريق الأولى، التي استقى منها الإنسان رؤيته الأولى أو بالأحرى نظريته الأولى عن العالم وما يحيط به، وهذا ما نجده عند فلاسفة الإغريق (أفلاطون مثلا) الذي اعتبر هذا العالم الذي نعيش فيه ما هو إلا ظلال لعالم آخر فوقاني حقاني تتجلى فيه الحقائق في صورتها الحقيقية المطلقة، لهذا يمكن القول ههنا بأن أي مقاربة لاهوتية حاول الإنسان تقديمها منذ سالف الزمان لا يمكن البتة أن نفصلها عن الحقيقة الدينية أو تشكل الدين في صورته الأولى.
كما أن الدين بصورة عامة لا يمكن رهنه في الأسطورة فقط، بحيث لا يكون تعبيرا عنها وحدها، بحكم أن إضفاء القداسة على تصورات معينة هو من تأثيرات الأسطورة في الدين، وقد واجهت الأسطورة محركاً نقدياً من طرف أرباب العلم، الذين حاولوا مسح النظرة السحرية في تفسير العالم، لهذا عمد العلم إلى نفي الأسطورة، بخلاف العلمنة التي لا تنفي الأسطورة ضرورة، بل هي الأخرى قد تعمد إلى الإتيان بأساطير جديدة، وبهذا تعمد النزعات العلمانية إلى وضع ضرب جديد للدين الوضعاني أو ما يمكن أن ننعته بالدين البديل أو الدين الدنياني، كما أن الأسطورة هي حكاية سردية تحمل معنى رمزياً أو بالأحرى تطبع بطابع الأمثولة، وهي بإجماع الكثير من المؤرخين حكاية منشأ وبداية، وأهم أساطير النشأة الأولى أسطورة الخلق، لكن ليس كل الحكايات هي عبارة عن أساطير، و لكن الأساطير هي بالضرورة عبارة عن حكايات، حكايات تروي قصة الخليقة في بداياتها، لهذا تكون الأساطير في جوهرها أساطير لنشأة وتكوين هذا العالم، وبذلك تسعى الأسطورة للإجابة عن السؤال السببي العلي (لماذا) وهو سؤال غائي يبحث عن العلل القصوى التي خلقت هذا العالم وكانت سبباً في ظهوره، ولا تعنى بالتفسير العلمي الذي يرجع كل ظاهرة في الكون إلى أسباب فيزيقية أدت إلى تكوينه، والدارج أن جل الأساطير تحاول بيان بداية الخليقة وسر الخلق والكائن الأعلى المطلق الذي أحدث هذا العالم، وليس يعني أن تبقى الأسطورة مرهونة فقط بقصة الخليقة بل أنها تحاول تفسير النهايات (نهاية العالم والخليقة)، فهي تتنبأ بما سيحصل بعد ملايين أو مليارات السنين، وكيف ستفنى البشرية وتنتهي قصة هذا العالم، وتقدم لنا نظرة استشرافية عن المآلات الممكنة للبشرية وما سيحصل في الزمن القادم، ليتسنى لها خلق الحلقة الوجودية الكونية (أسطورة العود على بدء)، مثل الفردوس المفقود، وحكم الرب على الأرض في استعادته للفردوس المفقود في نهاية التاريخ، ونمط المخلص الموعود الذي طبع الأديان الوثنية المتوسطية الشرقية، وكذا المخلص أو المسيح المرتقب في الديانة اليهودية والمسيحية أو المهدي المنتظر (الإمام الغائب) في الدين الإسلامي.
كما يؤكد عزمي بشارة على أن الأسطورة ليست علماً بدائياً بالأسباب الأولى، بل هي التي تمنح المعنى للأشياء والحيوات، بحكم أن الموجودات سيكون لها وجود لا معنى له في عالم الدنيا ما لم تصبغ عليه الأسطورة بصبغة الغاية القصوى لوجوده، وكأنها عبارة عن تفسير ميتافيزيقي للأشياء المتجلية في هذا العالم والتي تحتاج إلى معرفة علة نهائية وغاية لوجودها، كما تعطي المعنى المفهوم لسبب وجودنا نحن كبشر في العالم والغاية التي خلقنا لأجلها، وكذا خلقت لأجلها الكائنات الحية جميعاً، حتى لا يكون وجود الأشياء والعالم وجوداً عبثياً عفوياً يسير نحو الفناء الأعمى ولا تحكمه قصدية عليا مطلقة.
ولهذا يعتبر عزمي الأسطورة مكونا أساسيا للحضارة، ولا توجد حضارة من الحضارات الغابرة إلا وجعلت من الأسطورة ركناً أساسياً لقيامها، وهذا ما نحذقه من الحضارات الشرقية القديمة مثلا والحضارة الرومانية واليونانية... إلخ، ويرى المفكر عزمي بشارة أن الأسطورة تنتقل من ديانة إلى أخرى لكنها تتخذ تمظهرات متباينة، كأن تغير في رسم الأسماء والأماكن والأزمنة، لكن الخيط الناظم لها واحد لا يتغير، وهذا ما نتجلاه في طريقة تقديم القرابين وتقديس الأمكنة والأزمنة وغيرها من طقوس العبادات، لهذا تعتبر الأسطورة الدينية مكونا أساسيا من مكونات العقيدة الدينية بالنسبة لأي شعب من شعوب هذا العالم، وأفضل ضرب ممكن أن يعبر عن الأسطورة هو ممارسة الطقوس، فالأسطورة تعيد إنتاج نفسها دوماً عن طريق ممارسة الطقوس بحكم أن الطقس أو الشعيرة الدينية ما هو إلا إعادة لتمثيل الأسطورة الدينية، كما يعتمدها البعض بغية توضيح وتفسير بعض الطقوس الغامضة والغريبة، والتي لا تجد تفسيراً مقنعا في بعض الحالات، فنجد الإنسان يعتمد على الأسطورة في سبيل كشف الغطاء والحجب عن ماهية الطقوس الممارسة، ولباس الطقس أو الشعيرة دثار الأسطورة حتى يفهم ويصير واضحاً.
و يعتقد الدكتور عزمي بشارة أنه لا وجود البتة لديانة معينة في العالم منذ فجر التاريخ، سواء أكان هذا الدين سماوياً أو وضعيا بدائيا أم متطورا، من دون ملمح أسطوري يجبله، وتعتمد الأسطورة في سبيل إبلاغها لمقصودها والبرهنة على حقانيتها على الأرموزة أو الأمثولة، وهي ضرب من الحكاية الدينية الخارقة الرمزية التي تفسر للناس كيفية نشأة عبادتهم وسرها الكامن فيها ومقصدها، والمنابع الأولى لتكون الخير والشر والغاية النهائية من وراء العالم والكائنات الحية جميعاً، والكائن البشري بدرجة خاصة، كما أننا نتجلى في المقدس عموما وبالخصوص في الديانات البدائية (كما تنعت عند المؤرخين)، أنها تتواشج بعمق مع الدنيوية بصورة تجعل الأسطورة لها دور مركزي في العقيدة الدينية لكل إنسان، كما أن المقدس في الديانات السماوية أو كما ينعتها عزمي بشارة بالديانات الممأسسة وذات المعتقد الراسخ، ينفصل عن الدنيوي، وهذا ما ينتج عنه وجود وساطة معقولة ثيولوجياً أو كلامياً، و يقابلها الاتحاد بمفهومه الصوفي حيث إن الإنسان وعن طريق الجذب والفناء في المطلق (الله/الرب/الخير الأسمى/العلة الأولى...) بوسعه أن يرتقي حتى يصل إلى وحدة الوجود، بعد أن يمر بوحدة الشهود، وعندما يصل إلى وحدة الوجود تتوقف الكثرة وتتحقق وحدة الإنسان والعالم والإله، إلا أن الأسطورة في هذه الحالات تبقى مكوناً في العقيدة، لكنها تفقد مركزيتها ووظيفتها الأصلانية، وتبقى حية في الدين الشعبي.
الحوار المتمدن