عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" صدر، هذه الأيام، كتاب جديد للمفكر عزمي بشارة بعنوان "الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة". يجمل الكتاب مسعى إلى تطوير نظرية في الطائفة والطائفية تقوم على مقارنة واسعة لتواريخ هذه الظواهر الاجتماعية والفكرية وديناميتها الداخلية. ويعد الكتاب نتاج بحثٍ نظري وتاريخي في ظاهرتَي الطائفة والطائفية بمنهجٍ متداخل التخصصات، فعلى الرغم من الانشغال بالطوائف والطائفية إلى درجة استحواذها على الخطاب اليومي للرأي العام، لم يتطور البحث العلمي في هذا الموضوع، فضلًا عن تطوير نظرية في فهمه وتفسيره انطلاقًا من الواقع العربي. يسدّ الكتاب فراغًا كبيرًا في العلوم الاجتماعية والإنسانية العربية، متسائلًا عن حدود النظريات الاجتماعية السائدة بهذا الشأن. ويجد تميزه في طرح مفهوم للطائفية قوامه نقد مفاهيم الطائفة والطائفية، وإدماج أطروحة الطوائف المتخيلة في فهم هذه الظواهر. ويناقش تطورها في التاريخ العربي الإسلامي، ومميزًا لها عن مفاهيم أخرى استخدمت لدراسة تطور الجماعات الدينية في السياق الغربي. ويمثّل الكتاب مساحة اشتغال جديدة ضمن مشروع معرفي تراكمي لدراسة تاريخ الظاهرة الدينية وعلاقتها بالعلمنة يقوم عليه بشارة. وقد صدر قبلًا جزآن من هذا المشروع بعنوان "الدين والعلمانية في سياق تاريخي".هنا الفصل السابع من الكتاب، ويتناول تركيب العصبية الخلدونية في خصوص ظاهرة الطائفية، ونذكر أننا آثرنا حذف المراجع، ويمكن لمن يريد الاطلاع عليها العودة الى الكتاب:
ليست الطوائف الدينية ظاهرةً حديثةً، وإن بدا تصريحنا تقليديًا في مقابل القول بحداثتها، والذي يبدو مجددًا. فقد كانت قائمة على شكل جماعات محلية وفِرَقٍ وغيرِها في البلدات والتجمعات السكانية والأقاليم. والجديد هو نشوء الطوائف الدينية على مستوى عابر للمحلي، والأهم من ذلك قيامها في سياق الدولة ووعي المجال العمومي، وكذلك في التمثيل الضمني المضبوط لها في بنية النظام السياسي (كما في حالة النظام السوري) أو على نحوٍ محزب أو مقنن عبر الطائفية السياسية (كما في حالتَي العراق ولبنان)، أو على مستوى التطلع إلى مكانة في الدولة، وكذلك الطوائف العابرة للدولة مع الوعي بوجودها، أي تحدّيها، وهي التي أسميها هنا الطوائف المتخيلة. كما أن الجديد هو نشوء واقع وخطاب سياسيَّيْن، أي بنية محددة للقوة والسلطة، تتحول من خلالها حتى الأكثرية، كما في حالة المسلمين السنّة في بعض البلدان مثلًا، إلى طائفة.
لا بأس أن نذكر هنا أن تعدّد المذاهب والديانات ليس في حدّ ذاته سببًا للنزاع في الحداثة. في الماضي نشبت حروب دينية، وساهمت الحروب نفسها في تكثيف عملية سبقتها؛ وهي تبلور الأطراف المتحاربة بوصفها طوائف، وتحويل المذاهب والديانات إلى طوائف. أما في عصرنا فلا وجود لحروب دينية تقريبًا، والناس لا تتصارع بدافع العقيدة، أو بهدف فرض العقيدة الدينية، إلا في هوامش دول وبلدان تقع غالبيتها في العالم الإسلامي، كما في حالة هوامش العراق وسورية وليبيا في ظروف ضعف الدولة. ولا يفهم هذا في حد ذاته إلا إذا فهمنا الخلفيات السياسية والاجتماعية لحاملي راية الحرب العقيدية المزعومة هذه، مثل التنظيمات السلفية الجهادية على أنواعها. تصلح عوامل صعود الطائفيّة ذاتُها لتفسير صعود النزاعات العشائرية والجهوية والإثنية حتى في دول ليس فيها طوائف دينية متعددة. فالطائفيّة ظاهرة اجتماعية وسياسية وإشكالية لا علاقة لها ضرورية بتعدد الديانات والمذاهب الطوائف، وإن كانت قابلة للتطور والتفعيل في شروط معينة في البنيات المتعددة دينيًا ومذهبيًا، لكن ليس ثمة علاقة حتمية بين الأمرين. فإذا توافرت العوامل نفسها، وإن لم توجد طوائف متعددة؛ فقد تتحوّل العشيرة أو الناحية أو أي جماعة تستند إليها السلطة في الولاء والتعاطف إلى «طائفة»، أي إلى كيان اجتماعي - سياسي في إطار الولاء للنظام مثلًا، في مقابل تحوّل المعارضة إلى «طائفة» باستنادها إلى جماعة أو جماعات هوية في معارضتها للنظام، وهذا كله في سياق الصراع على الدولة وفيها . «إن كل تطييف للدولة، أي إخضاعها جزئيًا أو كليًا لمصالح فئة معينة، اجتماعية أو مذهبية لا فرق، وفي أي زمان ومكان، يفقدها صفتها كمؤسسة عمومية أو للعموم، ويؤدي كرد فعل طبيعي إلى تدويل الطائفة، أي يدفع الجماعات المختلفة، الدينية أو القروية أو القبلية إلى تفعيل علاقات التضامن [...] وتجييرها إلى قناة من قنوات تداول السلطة والصراع عليها، مما يعني أيضًا شحنها بقيمة ووزن سياسيين متزايدين [...]» . وليس المقصود، بالطبع، أي جماعة، بل تلك الجماعات التي يمكن تمييزها من محيطها بهوية محددة، ولا يهم، بالنسبة إلى المنتمين إليها أو خصومهم، إن كانت قائمة فعلًا أو متخيلة.
لا تكمن المشكلة، إذًا، في تعدديّة الانتماءات في حدّ ذاتها، بل تكمن في عملية بناء الأمة، وتنظيم قواعد الانقسام والاختلاف التي تنتجها هذه العملية في دولة مؤسسية تحكمها القوانين بالفعل، من دون اختطاف مراكز قوة معينة لها. فإذا لم تمثّل السلطة المواطنين جميعًا، ولم تطرح مشروعًا للأمة (بوصفها مجتمع المواطنين)، وإذا لم تطمح المعارضة إلى تمثيل الأمة كلها، ولم تطرح لها مشروعًا، وإذا تلخّصت مصادر الشرعية والدعم لكليهما بقطاعات اجتماعية متمايزة عموديًا، أي تُعدّ انتماءات تبنى عليها سياسات الهوية؛ فإن المطروح ليس التعدّدية بل تنازع الجماعات. وخلافًا للدول القديمة، بوصفها حكم سلالة بعينها بعد أن تغلّبت عصبيتها على غيرها، فإن العصبيات من هذا النوع عدوّ الدولة الحديثة. فالدولة الحديثة تقوم على تمثيل كيان المجتمع عمومًا، ولا تقوم على عصبية. وإن ما قد يحصل هو إنتاج الدولة سلالةً أو عصبيةً في خدمتها (وليس العكس)، أي إن الدولة تنشئ العصبية، وليست العصبية تقيم الدولة. وهذا عكس تصور ابن خلدون الذي يحاول بعض الباحثين تطبيقه على عصرنا . ولا أدل على ذلك من أن العشيرة قد تأكَّلت موضوعيًا حال كونها بنية اجتماعية في عديد من البلدان العربية، لكن سلطة الدولة أعادت بعثها؛ ليس عبر إحياء العشائر المتأكّلة بنيويًا، بل عبر بعث العشائرية أو القبلية.
كتب ابن خلدون أن المُلك هو الغاية التي تجري إليها العصبية: «وأما المُلك فهو التغلب والحكم بالقهر. وصاحب العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع ووجد السبيل إلى التغلب والقهر لا يتركه، لأنه مطلوب للنفس ولا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعًا فالتغلب الملكي غاية للعصبية» . وتكون العصبية بالالتحام بالنسب أو ما في معناه، «فالصريح منه مقصور على المتوحشين في القفر. والنسب أمر وهمي لا حقيقة له، ونفعه إنما هو في هذه الوصلة والالتحام» . وتكون الرئاسة في نصاب مخصوص داخل العصبية يتغلب على غيره ، والمقصود غالبًا سلالة حاكمة. «وذلك أن الرئاسة لا تكون إلا بالغلب. والغلب إنما يكون بالعصبية [...] فلا بدّ للرئاسة على القوم أن تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة ... إلخ» .
أما الدولة الحديثة فليست سلالة حاكمة ترتكز على عصبية متغلبة، بل هي كيان سياسي يعبر عن عموم أصبح تجسيده ممكنًا، ويتجلى في السيادة الإقليمية (على الأرض المعرّفة بحدود)، وفي المواطنة أيضًا. ولا تقيمها العصبية بل العموم. أما حينما ينتج النظام الحاكم عصبية في خدمته، أو يحيي عصبية قديمة ويضفي عليها معانيَ ووظائف جديدة، فإنها تستدعي على الفور عصبيات أخرى ضدها، ويقود ذلك إلى حالة صراع اجتماعي يهمش السياسي، أي يهمش الدولة التي تتحول نخبتها المسيطرة إلى جماعة من الجماعات. وحيث لا توجد تعدّدية عصبويّة قد تُخلق تعددية كهذه، بالمعارضة التي تحيي عشائر أو طوائف أخرى، أو بتحويل النواحي إلى هويّات، أو انشقاق العشيرة إلى بطون متنافسة، وحتى بتوليد هويات سياسية حزبية أيديولوجية أشبه بالعصبيات للجماعات المتخيلة، أي بخلق هويّات جديدة تقسم المجتمع عموديًا.
ويضع بعض الباحثين العصبية في مقام الانتماء إلى جماعة، أيِّ جماعة، مع أنه لم تكن هذه دلالته عند ابن خلدون. وصحيح أن تعريف العصب ينتمي إلى الحقل الدلالي نفسه للعصبة وهي الرباط، إلا أن اللفظ ليس المصطلح الخلدوني التحليلي. العصب في لسان العرب ما يشد أطناب المفاصل عند الإنسان والدابة، بمعنى يربط بعضها ببعض، ومنها عصبة الرأس مثلًا، والعصابة بمعنى العمامة. «والتعصب من العصبية. والعصبية أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته، والتألب معهم على من يناوئهم، ظالمين كانوا أم مظلومين. وقد تعصبوا عليهم إذا تجمعوا [...] والعَصبة الأقارب من جهة الأب ... إلخ» ؛ فالعصبية من العصبة أي الرباط. ولكن هذا لا يكفي لفهم المقصود عند ابن خلدون.
ويقسّم فؤاد خوري العصبية إلى ثلاثة أنواع (ولا ندري لماذا ثلاثة فقط؟): عصبية قبليّة، وعصبيّة طائفيّة، وعصبيّة إثنية. وأخطأ مرة أخرى حين عدّ العصبيّة الطائفية نابعة من وحدة الإيمان والممارسات الدينيّة . صحيح أن موضوع العصبية الطائفية هو جماعة العقيدة أو المذهب والطقوس والممارسات المترتبة عليها، ولكنّها لا تنبع منها، فهي شكل من التنظيم الاجتماعي. كما أنه من الضروري التذكير بأن العصبية بمعنى التعصب لأي جماعة (إثنية أو دينية أو غيرها) ليست هي عصبية ابن خلدون القائمة على القبيلة وبطونها القوية المتنافسة على السيطرة وتسلم الحكم عبر نفي العصبيات الأخرى، والتي تقود إلى تغلب فرع من القبيلة على الآخرين؛ فليس هذا موضوع الطائفية.
وقبل أن يفطن باحث مثل ليون غولدسميث إلى النموذج التحليلي الخلدوني في فهم العلويين في السلطة في سورية، كان قد سبقه إليه الباحث الفرنسي ميشيل سورا في أبحاثه عن النظام السوري أيضًا؛ فلقد استعار سورا نموذج ابن خلدون لفهم صعود ما يعدّه حكم الأقلية العلوية في سورية، داحضًا صلاحية نظرية الدولة في فهم ما جرى هناك؛ فهو بالنسبة إليه حكم سلطاني، وصل بتغليب عصبية عشائرية تستخدم الدين للفوز بالسلطان، ثم استخدام الطغيان لإحداث الرعب (الإرهاب) وحماية هذا السلطان. يستعيد سورا «إطارًا تحليليًا وضعه منذ ما يقارب الستمئة عام المفكر ابن خلدون عندما أظهر كيف تقوم في مكان معين عصبية ما، تدعمها روابط الدم أو، ببساطة، تشابُه المصير فقط، باستغلال دعوة دينية أو سياسية (وفي الإسلام الأمران مرتبطان ببعضهما ارتباطًا لا انفكاك له) وسيلة للوصول إلى السلطة المطلقة أو الملك» .
وفي رأينا؛ يقلل سورا الذي نتفق مع نتائجه، وليس مع تحليله، من أهمية مؤسسات حديثة مثل الجيش والحزب والمنظمات والقوى الحزبية والاجتماعية - السياسية المتحالفة معه وغيرها القائمة في الدولة السورية، على الرغم من نظام الطغيان السائد فيها منذ سبعينيات القرن الماضي. ونحن نرى أنه لولا هذه المؤسسات لما نفعت أي عصبة أو جماعة في السيطرة على دولة حديثة. ولا نرى أن الطائفية السياسية هنا عصبية سابقة على السلطان، مثل العصبية القبلية، بل نعتقد أن السلطان في عملية تثبيت مواقعه في الدولة والحزب والجيش احتاج إلى الولاء المباشر له، واستغل منافعه ومؤسساته وغنائمه ورواتبه ومراتبه فأعاد إنتاج الطائفية عبر الولاء الشخصي للحاكم والمسؤولين. ليس لأنه مؤمن بها بالضرورة بل لمقتضيات الحكم. إنها ليست طائفية التبعية لمذهب لا تعرفه إلا قلة من المتعصبين للطائفة، بل طائفية نظام الحكم والامتيازات.
وهي بمعناها هذا بالنسبة إلى العصبية البدوية «ليست سوى نظام للذل ودفع الضريبة» . وهو يرى أن الدولة لا تقوم في البداوة إلا على نحو عابر، وهي إن قامت في البداوة تكون في الحقيقة مشيخات وليست دولًا . لكن الدولة الخلدونية في الماضي تقوم على هذه العصبية. هذه دولة ابن خلدون وعصره، ولكنّها ليست الدولة الحديثة.
وفي المقابل، يحاول بعضهم فرض النموذج الخلدوني على الدولة الحديثة لتفسير سيطرة قوى سياسية. وفي رأينا؛ يخطئ كل من يحاول دراسة الدولة العربية الحديثة بمفاهيم العصبية مع إسقاط مفهوم العصبية الخلدوني الخاص بالقبيلة (في الدولة بمعنى تسيّد سلالة بعينها) على الطائفة الدينية في عصرنا، وذلك في سياق علاقات القوة داخل الدولة الحديثة.
يتبنى بحثنا هذا مقاربة نظرية، مفادُها أن القوى التي تسيطر على الدولة الحديثة تنتج عصبية، أو تعيد إنتاجها، في ظروف تاريخية معينة، وليست العصبية هي التي تستولي على الدولة. لقد تبنى مؤلف مثل غولدسميث تفسيرًا خلدونيًا لنظام الحكم في سورية ، والفرضيّة الرئيسة في كتابه أنّه في الإمكان توسيع نظريّة ابن خلدون في العصبيّة لتشمل الطائفة، بحيث يمكن الحديث عن عصبية طائفية تفسّر صعود حكم عائلة الأسد بالاعتماد عليها. ولكنّه يضيف إلى عناصر العصبيّة أمرًا لم يكن قائمًا في نظريات ابن خلدون؛ هو سياسة الخوف الطائفي، ويقصد به خوف الأقليات من الأغلبيّة إذا فقدت سيطرتها على الحكم. ويتأسّس الخوف هذا على الذاكرة الجماعيّة عن الاضطهاد والتمييز الذي لحق بأتباع هذا المذهب في الماضي. إنّ الخوف هو العامل الرئيس في دعم العصبيّة العَلَويّة لحكم عائلة الأسد. ولكن عامل الخوف من الأكثرية قائم في تحديد هوية الأقليات عمومًا بحكم تعريفها (بعصبية ومن دونها)، ولا يحتاج إلى نظرية العصبية الخلدونية.
يناقش غولدسميث فرضيّة أنّ الرابطة الطائفيّة غير كافية في تفسير هذا الالتفاف حول حكم الأسد، وإنما لا بدّ من رؤية التوزيع الانتقائي للامتيازات. وهو يرى أنّ الخوف أقوى من الامتيازات، لا سيما أنّ العَلَويين لا يحظون بـ «امتيازات استثنائيّة في سوريّة المعاصرة» . ولا يدرك الكاتب أنّ ثمة امتيازاتٍ معنويةً متعلقةً بمشاعر التفوق على الآخرين في المكانة في الدولة، والفخر في مقابل الذل، وأن الشعور بملكيّة الدولة هو امتياز، وهو امتياز معنوي من الدرجة الأولى يساهم في إنتاج جماعة متخيلة تملك الدولة، ويمنح شعورًا بالتفوق والثقة؛ فالامتيازات ليست ماديّة فحسب. وهذا الشعور بأن الإنسان ينتمي إلى جماعة تملك الدولة (أجهزتها الأمنية، ورموزها، ومناهج تدريسها)، وجماعة أخرى محرومة من ملكية الدولة، أو من حصة ملائمةٍ فيها، هو أحد أهم مصادر الطائفية المعاصرة التي يجري تأجيجها في العراق. يدرك غولدسميث أنّ العصبيّة الخلدونية التي ترفع زعيمًا إلى الحكم هي عصبيّة قبليّة لجماعةٍ مباشرةٍ، وهو يوسع مصطلحها ليشمل العصبيّة الطائفيّة؛ فتصبح العصبيّة عنده هي الانتماء أو التعصب عمومًا. ولكن هذا أمر لا يحتاج إلى نظريّة ابن خلدون، وهو يرتكب خطأً بالاستناد إليها. وهو خطأ يقلب الوعي التاريخي بالدولة.
تتناول نظريّة ابن خلدون تناولًا مباشرًا العصبيّةَ القبليّةَ، وليس التعصّب أو الانتماء إلى أي جماعة كانت. وهي العصبية التي تمكّن سلالة من قيادة قبيلة معينة، وتتمكن بواسطتها قبيلة من الاستيلاء على الحكم . كل إنسان يُدركُ مفهوم التعصب والانتماء وأهميّته في تماسك المجتمعات، كما يدرك أي مواطن متوسط الثقافة أن تماسك الأقليات متأثر بعنصر الشعور بالتهديد أو الخوف. لا حاجة إلى ابن خلدون هنا، وليس هذا هو المقصود بالعصبية عند ابن خلدون. ما قصده ابن خلدون هو بالضبط العصبيّة القبليّة التي تقوم عليها السلالات الحاكمة القويّة، وليس جماعةً متخيلةً مثل الطائفة التي قد تحتاج إلى تعصّب أشدّ من أجل تماسكها، أي تعتمد في الأساس على الانتماء، وهذه مسألة لم يرها ابن خلدون. وكأن مؤلف كتاب دائرة الخوف يريد أن يدرس المجتمع العربي بـ «منهج عربي» يستمده من القرن الرابع عشر الميلادي، فيرتكب خطأين؛ أولهما افتراض أن مفاهيم العلوم الاجتماعية الحديثة ونظرياتها لا تنطبق على العرب، وثانيهما أن العرب ظلوا على ما هم عليه منذ سبعة قرون. فيقع بذلك في مغالطات مضاعفة لا يرتكبها المستشرقون المعاصرون.
ولهذا يخطئ صاحب هذه المقاربة في فهم الطائفية في تفسيره؛ فيذهب إلى أنّه عندما «استولى العلوي حافظ الأسد على السلطة في دمشق سنة 1970 وأسّس دولة غير متوقعة في سوريّة المعاصرة كان ذلك بفضل الدعم والتأييد الذي تلقاه من عصبيّة طائفته».
وهذا لا يعني أن الأسد وجيله من الضباط لم يكونوا واعين بطوائفهم وطوائف زملائهم من الناحية الاجتماعية. فقد تميز الضباط الريفيون عن رفاقهم من الحزبيين المدنيين بقربهم أكثر من التقاليد والبنى التقليدية. ولكنّهم انتموا إلى حزب حاول تجاوز الطائفية الاجتماعية القائمة، واستغلالها السياسي الذي عرفته سورية منذ القرن التاسع عشر. وقد آمن الشباب المنتمون إلى الأحزاب القومية واليسارية والليبرالية بالحزب والدولة والمؤسسات الحديثة الأخرى. وبرز وعي الضباط بالانتماء الطائفي خلال التنافس والصراع في ما بينهم، ولا سيما بعد انفصال سورية عن الجمهورية العربية المتحدة. فقد دار صراع على السلطة في داخل اللجنة العسكريّة البعثيّة بعد فشل الانقلاب الناصري في 18 تموز/يوليو 1963، وبدأ الصراع يتخذ شكل تجمعات طائفيّة أو عشائريّة أو إقليميّة حول الضباط المتنافسين. وقد وصف منيف الرزاز هذه العمليّة، واتهامات الفريق أمين الحافظ للواء صلاح جديد بالتكتل الطائفي، وذلك في اجتماعات لجنة الضباط (وهي غير اللجنة العسكرية) . وكتب الرزاز أيضًا: «لم يكن هذا النزاع الأول في تاريخ اللجنة العسكرية. فقد أقصي عنها قبل ذلك آخرون أهمهم اللواء محمد عمران، الذي بدأ طموحه يهدّد كلًا من الفريق واللواء صلاح معًا. فأقصته اللجنة [...] واستعملت ضده تهم ‘التكتيل الطائفي’ [...] لكن لب المشكلة الحقيقي كان في أن الحكم لم يكن يتحمل أكثر من قائد واحد» . إنه صراع أفرادٍ على الزعامة إذًا. و«كان سلاحا المعركة الأساسيان هما اتهام الفريق للواء بالطائفية [...] واتهام اللواء للفريق بالدكتاتورية والتسلط» . ونتفق مع تحليل الرزاز لوجود الأرياف في قواعد الحزب، ولا سيما في مرحلته الراديكالية، وكذلك أعداد الضباط العالية منهم في الجيش، ووقوف العسكريين من أبناء البرجوازية السورية ضد الوحدة مع مصر في الجمهورية العربية المتحدة ومع الانفصال، واجتماع هذه العوامل لوصول عسكريين من العلويين وأقليات مذهبية أخرى إلى قيادات التنظيم البعثي العسكري. المتحدة. «ولكن روائح التكتيل الطائفي المقصود بدأت تفوح. وبدأ الحديث عنها، أوّل الأمر، همسًا، ثمّ بدأت الأصوات في الارتفاع حين ظهرت بوادر ماديّة تسند الاتهام» . وظهرت بصورة تمييز في تسريح ضباط الاحتياط وقبول طلبة الكلية الحربية، و«تمييز في قبول الضباط وصفّ الضباط في صفوف الحزب» . وفي المرحلة ذاتها رأى تقرير السفارة الأميركية في بيروت إلى وزارة الخارجية في واشنطن حول الوضع في سورية؛ أن الصراع بين «الأسد العلوي في تحالفه مع طلاس السني» ضد «الزعيّن السني الذي يحتمل أنه متحالف مع الجندي الإسماعيلي وصلاح جديد العلوي»؛ يدل على أن «النظام انقسم على خطوط صراع شخصي وربما سياسي أكثر مما هو صراع طائفي. جميع المصادر تؤكد أن إبعاد الزعيّن والجندي يشكّل ضربة للموقف السوفياتي في سورية» . في تلك المرحلة قسم الأميركيون القوى السياسية بموجب قربها أو بعدها من السوفيات، وليس بموجب معسكرات طائفية.
إنّ عدم طائفيّة حزب البعث وهيمنة الفكر العروبي مع التوجه اليساري المساواتي المناهض لحكم الأرستقراطية في حينه، هي التي مكّنت مجموعات من الضباط، بتمثيل عال للأقليات في صفوفهم، من السيطرة عليه، ومكّنت شخصًا مثل حافظ الأسد من الوصول إلى مناصب على مستوى سورية كلها لم يكن ليحلم بها شخص مثله. أما مسألة العصبيّة الطائفيّة فلا تتعلق بصعوده إلى الحكم وإنما بإدارة عملية بقائه في السلطة؛ بالاعتماد على الولاءات المباشرة لأشخاصٍ من منطقته داخل الحزب وفي الجيش وأجهزة الأمن المتضخمة، ثمّ بعد ذلك لارتباط أوساط واسعة من الطائفة العَلَويّة بهؤلاء الأشخاص، من الناحية المعيشيّة المحض، في وظائف الدولة والأمن والرواتب أو من الناحية المعنوية ومن الناحية القرابية العائلية والعشائرية العلوية.
وثمّة عامل آخر مهم يهمله غولدسميث على طول الكتاب، وهو دور القمع وتكنولوجيا القمع وتنظيم الحزب والاستخبارات والجيش، وكلّها تنظيمات حديثة في الدولة وليست تنظيمات طائفيّة. صحيح أن علويين يسيطرون على مفاصلها، ولكنّها ليست تنظيمات طائفيّة أو عصبويّة، وإنما تنظيمات دولة تستخدم تكنولوجيا الضبط والرقابة والقمع المعروفة في الدول الحديثة وغير المعروفة في أيام ابن خلدون. إضافة إلى استخدامها وسائل هيجيمونية أيديولوجية عبر الحزب والتنشئة التربوية والاجتماعية ... إلخ.
دولة ابن خلدون دولة سلالة حاكمة تقوم بالعصبية وتندثر بضعفها، أما الطائفية في العصر الحديث فلا تنتج الدولة، بل تنتجها الدولة، في عملية الحفاظ على الحكم أو في الصراع على اقتسام الدولة. والطائفية تنتج طوائف متخيلة.
لقد تطرق الأنثروبولوجي اللبناني فؤاد اسحق الخوري إلى مسألة سيطرة ما يسميها «الأصوليات القبليّة» على الدولة، وتوزيع المنافع والهبات على أساس القربى والترابط الدموي - القبلي مع الحاكم، أو الود والولاء للعصبيّة الحاكمة. وهي لا تقتصر فقط على دول الخليج، وإنما هي مبدأ عام مُتَّبع في جميع البلدان العربيّة، لا فرق في ذلك بين مملكة وسلطنة وإمارة وجمهورية تتشكل منها عصبيات صغيرة أو أقليات تتحكم في كامل مصادر الوطن بما فيها رأس المال والبشر . ويؤكد أنّ سيادة الأصوليّة الحاكمة تأتي في هذه الحالة قبل سيادة الدولة، وهذا ما يفترضه منطق العصبيّة الأصوليّة . نحن نتفق معه على مسألة توزيع المنافع والهبات على أساس الود والقربى والولاء، ولكننا نرى أن السيطرة لا تفسر، ببساطة، بوصفها سيطرة عصبية قبلية في الدولة في عصرنا، ولا حتى سيطرة لاحقة لإحكام القبضة على البلاد.
لاحظ فؤاد خوري أنه في الدول العربيّة المركبة من ديانات أو إثنيات متعددة يبرز النمط التالي، فكتب أن السنّة العرب يسيطرون على البيروقراطيّة والخدمات العموميّة، في حين تسيطر الأقليات الطائفيّة أو الإثنيّة على الجيش وقوى الأمن، وأن هذا صحيحٌ في المغرب واليمن وعُمان وسورية ولبنان ودول الخليج. في المغرب يسيطر البربر (ويقصد بهم الأمازيغ) على الجيش وقوى الأمن، وفي شمال اليمن يسيطر الزيديون على الأمن، وفي سورية ولبنان ودول الخليج تسيطر تضامنات طائفيّة وقبليّة على الجيش (العلويون في سورية، والموارنة في لبنان، والإباضيون في عُمان). وفي بعض الدول العربيّة يسيطر العرب السنّة على أذرع الحكم كافة .
وقبل الاتفاق والاختلاف مع هذا الطرح من ناحية التحليل التاريخي؛ من الضروري الإشارة إلى مغالطة منطقية شائعة تقود إلى تشويه الوعي السياسي وإرباكه. فثمة فرق بين القول إن غالبية من يسيطرون على أجهزة الأمن في دول معينة هم أمازيغ أو علويون أو زيديون، وبين إضافة «ال» التعريف ليصبح «الأمازيغ أو العلويون أو الزيديون يسيطرون على أجهزة الأمن». فهذه المغالطة تبرر الاعتقاد أن الدول العربية تحكمها أقليات طائفية أو إثنية، وهذا يعني أن معارضة الأغلبية هي معارضة طائفية أو إثنية بالضرورة.
وفي رأي خوري؛ تؤدي الهجرة المتدفقة من الريف إلى المدينة، عمليًّا، إلى التسنّن . وهذا إسقاط للماضي على الحاضر. فللدقة يجب أن يقال إنها يفترض أن تقود إلى التسنن كما حصل في عهد المماليك والعثمانيين، أما في عهد الجمهوريات فقد زادت الهجرة من الاستقطاب في المدينة، بما في ذلك بين الأصليين والوافدين. فعدم استيعاب المدينة للهجرة أصبح يتخذ شكل استقطاب طائفي في حالات مثل دمشق وحمص وبيروت مثلًا، والموصل وكركوك (لكن على المستوى الإثني)، وفي مدن كثيرة أخرى يفد إليها المهاجرون من الريف ليشغلوا مناصب حكومية أو أمنية. فما اعتاد عليه أهل المدن هو أن يوفَدوا هم إلى الريف لإدارته لا أن يوفدَ ريفيون لإدارتهم.
الحقيقة أنه توجد ثلاثة عوامل ساهمت في تكوين الوزن المرتفع للأقليات (الإسلامية) في الجيوش العربية: 1. تفضيل الاستعمار الاعتماد على الأقليات في الجيش في بعض الحالات، 2. تفضيل أبناء الأرستقراطية التقليدية من أبناء الأغلبية مهنًا أخرى غير الجيش، ولا سيما بعد الدراسة الجامعية، 3. عدُّ الجيش سلَّم ترقٍّ اجتماعي مهمًا في عهد الاستعمار، ثم الدولة القطرية، وخصوصًا لأبناء الريف. وفي حالات كثيرة تتركز الأقليات في الأرياف، وحتى في المناطق الجبلية.
في الماضي، مثّلت الدولة أداة السيطرة والضبط الرئيسة بالنسبة إلى الأكثرية الاجتماعية في المدن، أما في حالة الجماعات الأهلية والمحلية، فإن التماسك الداخلي كان هو الأداة الرئيسة للضبط والسيطرة الاجتماعيين، ومن ضمن الجماعات والطوائف والفرق. ولهذا؛ فعندما يتبوَّأ زعيمٌ سياسي من الطوائف والفِرَق منصب الرئاسة ينشأ إمكان أن يعتمد على انتمائه إلى الطائفة لتعبئة الولاءات لمصلحة تثبيت سلطته أو استمرارها. والحقيقة أن الذي حصل هو أنه جرى استخدام الولاءات الشخصية على أنواعها، ومن ضمنها ولاء مباشر للزعيم القائد، يقدّمه حزبيون وضباط ينتمون إلى طوائف ومذاهب مختلفة وليس إلى طائفة واحدة بالضرورة. كما استُخدم الولاء عبر العشيرة والبلدة، حتى الطائفة (وإن لم يُعبَّر صراحةً عن هذا الولاء الأخير إطلاقًا حتى انفجرت الثورات العربية عام 2011). وفعل ذلك أيضًا زعماء ينتمون إلى العرب السنّة بمصطلحات اليوم، كما في حالة صدّام حسين في العراق، والذي استخدم الولاء الشخصي له في الحزب والناحية والعشيرة. هذا، مع أن السنة ليست طائفة لا في العراق (حيث بدأ تشكل السنة بوصفهم طائفة متخيلة بعد عام 2003)، ولا في غيره. لم يقتصر الأمر، إذًا، على ما يسمى الطوائف والفرق الأقلياتية. وإن كانت لهذه الصيرورة صلة بتنظيرات ابن خلدون، فإنها تتلخص في أنها تقلبها تمامًا.
علينا أن نذكر أن أحدًا من هؤلاء القادة لم يصل إلى السلطة أو يثب عليها بفعل العصبية القبلية. حتى في حالة حكم علي عبد الله صالح الطويل لليمن، قياسًا على من سبقه من الرؤساء، نجد فرقًا بين توظيفه للعصبية القبلية إبان السلطة وبين إيصالها إياه إلى السلطة. والتحالف مع التجمع اليمني للإصلاح، ثم لاحقًا، لفترة، مع الحزب الاشتراكي اليمني، يشير من الناحية السوسيولوجية السياسية إلى تحالف قوى قبلية وفوق قبلية في آن. فوصل صالح إلى السلطة من الجيش على خلفية اغتيال عدة رؤساء قبله ومقتلهم. وجميعهم وصلوا إلى الحكم بواسطة مؤسسات حديثة مثل الجيش والتكتل العسكري فيه، والحزب. ولكن الولاءات القبلية القائمة بقوة في اليمن استُنهضت في إدارة الحكم والحفاظ عليه ضمن آليات السيطرة على المجتمع.
هناك من يورد أربعة عوامل (يستخلصها من التجربة العراقية) تساهم في تحريك التعريف الذاتي الطائفيّ؛ الهوية الطائفية الجماعيّة، أو تجييشها، أي في انتقال الفرد إلى تعريف نفسه بالانتماء إلى جماعة تقوم على التبعية لمذهب، والتأثير الخارجي (المقصود هو تأثيرات دول من خارج الكيان السياسي الذي يجمع بين الطوائف)، والتنافس الاقتصادي، ووجود مركبات رمزيّة أسطوريّة متنافسة، والتنازع على امتلاك الأمّة ثقافيًّا .
ونحن نرى أن هذه العوامل مهمة، إلا أنها في الواقع بعض عوامل صنع الطائفة المتخيلة، بواسطة قوى سياسية اجتماعية متنافسة تتبنى الطائفية، أو بواسطة قوى دولية وإقليمية؛ فالطائفية تمنح هذه الصراعات صياغة هوياتية. ونحن نضيف إلى هذه العوامل أمرًا رئيسًا لا يجوز أن يُنسى في مثل هذا المجال، وهو في الحقيقة أساسه؛ إنه الصراع على السلطة في الدولة المعاصرة ما بعد الكولونيالية في حالة من حالتين: قبل اكتمال عملية بناء الأمة، أو بعد فشلها.
ففي البلدان التي تتعدد فيها المذاهب والديانات، والتي لم تمر بعملية علمنة الثقافة السياسية وتحديثها لفئات واسعة من الناس، وحيث ما زالت التبعية الدينية أو العقيدية من هويات الإنسان الأساسية، قد يجري في الصراع على السيطرة على السلطة السياسية تجييش التأييد الشعبي على أساس طائفي. ويستند هذا غالبًا إلى إيقاظ المخاوف والمظلوميات على أنواعها، و«الحقوق التاريخية» على أنواعها، بوصفها مظلوميات وحقوقًا طائفية . عند ذلك يصبح فرض الرموز الطائفية على الدولة وعلى المجتمع كله، عبر التعليم الرسمي وغيره باستخدام أذرع الدولة، من أهم الأدلة التي تُقدَّم إلى القواعد الاجتماعية (التي تطيَّفت) على أنها تسيطر على الدولة، وأن الدولة دولتها. وهذا ما تفعله حاليًا الأحزاب الشيعية السياسية في العراق مثلًا.
ثمة أهمية قصوى لعملية فرض الرموز في شعور الجماعة بأهميتها ووزنها النوعي في الدولة. ويتعلق هذا بالجانب المعنوي النفسي في الصراعات الإثنية؛ إذ يعود كثير من الصراعات الإثنية إلى المقارنة بين الجماعات التي قام بها الاستعمار في إدارته للدولة، وورثتها الدولة الوطنية؛ ما يكسب الهوية الإثنية أهمية أكبر مما كانت عليه. «ففي الدولة الحديثة [...] يعود مصدر الصراع الإثني، قبل كل شيء، إلى الصراع حول الأهمية النسبية للجماعة» . لقد عزّز الاستعمار الهويات الجماعية من جهة، وأنتج التمييز بين جماعات متقدمة وأخرى متخلفة من جهة ثانية، ومعه الاندفاع للّحاق بالجماعة المتقدمة .
والسلطة في المجتمعات المنقسمة إثنيًا هدف، وليست وسيلة فحسب؛ فهي تؤكد قيمة الجماعة ومكانتها كما تضمن بقاءها . ومثل الاندفاع إلى السلطة ينشأ، أيضًا، الخوف من سيطرة جماعات أُخرى عليها .
وفي ظل حكم البعث السوري والعراقي، وبعد أن استقر حكم الحزب والأجهزة، مالت فئات واسعة من الشعب، في تعاملها غير العلني مع السياسة، إلى تفسير التحولات الاجتماعية مثل التأميمات وغيرها تفسيرًا طائفيًا. فلقد تضرر القطاع الخاص في العراق من سياسات التأميم؛ وهو أداة شيعة المدن في الترقي الطبقي في العصر الملكي (ولا سيما بعد هجرة التجار اليهود بعد النكبة)، وذلك في ظل بُعد الشيعة النسبي عن وظائف الدولة والجيش مقارنة بالسنة؛ فأمكن تفسير الخطوات اليسارية الاشتراكية أو التنموية الدولتية أو القومية (بحسب زاوية النظر) بوصفها نوعًا من الاضطهاد الطائفي.
وفي سورية تضرّر التجار ورجال الأعمال (وغالبيتهم الساحقة من سنّة المدن) من خطوات التأميم التي قام بها حزب البعث بعد عام 1963، والإصلاح الزراعي لمصلحة الفلاحين. «ونلحظ هنا دور التمثلات، أي مزيج الأوهام والتخيلات والتصورات الأيديولوجية التي تغذّي التمثلات الطائفية لتلك الخطوات وتذكّيها، وأنّ شيوعها يتوقف في حدود كبيرة على مدى انتشار التمثلات العقلانية (خطاب التنمية مثلًا)، إلا أنّ التدمير المنظّم لقوى اليسار أفرغ المجتمع من إمكانية تعدّد الخطاب السياسي، وترك المجال لاستقطاب ثنائي: الخطاب الرسمي بإزاء الخطاب الطائفي» . ولم تقتصر القضية على تدمير قوى اليسار، بل تجاوزتها إلى خنق أي تعبير مدني ديمقراطي عن البرجوازية ذاتها، بحيث ينشأ خطاب مدني أيضًا معارض لاقتصاد الدولة وبيروقراطيتها، بحيث لا ينشأ تضامن طائفي متعارض مع المصالح؛ لأنه لا يمكّن فئاتٍ سكانيةً مستفيدةً من خطوات الدولة، وأخرى متضررة منها؛ من التعبير عن نفسها سياسيًا، بحيث تبقى الطائفة كيانًا محليًا حقيقيًا، بدل أن تصبح كيانًا متخيلًا شاملًا.
وفي البلدان العربية نشأ مركب من عناصر مختلفة فاقمَ الطائفيّة السياسيّة العنيفة، وذلك في حالات مثل:
-1 استعانة النظام الحاكم بعلاقات الانتماء القبلي والجهوي لتشكيل قاعدة ولاءات شخصية إضافية في الأجهزة الأمنية وغيرها، تعزز الولاء الحزبي والسياسي، أو توازيه في حالات أخرى. جرى ذلك في أنظمة سلطوية ينزع المحكومون فيها نحو تفسير الولاء هذا تفسيرًا فئويًا طائفيًا، وإذًا، تفسير مظلوميتهم على هذا الأساس، ولا سيما في وجود تاريخ مِلَليّ أو طائفي قريب العهد مرتبط بالعهد العثماني، أو بإعادة تخيل المحدّدات الطائفية في صراعات الماضي، أو ثقافة قبلية تشمل سلم تصنيف للجماعات.
-2 تحالف قادة طائفة أقلية دينية مع النظام السياسي الاستبدادي القائم في خضمّ ما تراه هي صراعًا على البقاء، وما تعتقد أنه حماية للطائفة من سلطة ممكنة للأكثرية الطائفية، أو حينما تحالفت مع دول أجنبية للسبب عينِه. ففي الحالتين يتصرف الناس بوصفهم طائفةً، أو جسمًا متميّزًا من مجمل الشعب عمومًا، وبوصفهم أقلية. إن رهان الزعامات الطائفيّة على الاستعمار أو على الاستبداد لحماية الأقليات هو اغترابٌ عن مصالح غالبية الشعب وتطلعاتها. وهذا لا يعني أن المخاوف لا أساس لها.
وبغض النظر عن وجاهة مخاوف الأقلية نشأت ردة فعل الأغلبية على شكل ردة فعل طائفية. وبهذا نشأ خطر تحول صياغة وعي الأغلبية بوصفه وعيًا طائفيًا، من الاستثناء التاريخي (لبنان) إلى القاعدة التاريخية (ببروز ملامح انضمام الأغلبية في العراق وسورية إلى الطائفية؛ ما ينذر بتحويل الاستثناء اللبناني إلى قاعدة في المشرق) . وليس ذلك قضاءً وقدرًا، ولا مصيرًا محتومًا، ويمكن، بالتأكيد، تغييره بالفعل الإنساني.
ولمسألة التعاون مع قوى أجنبية أصول تاريخية قبل المرحلة القومية بقرون عدة. وقد حدث في التاريخ ذلك، في تعاون مع الصليبيين والتتار، كما حدث في تعاون صليبيين مع أمراء مسلمين ضد أمراء مسلمين آخرين. فلم يكن لدى الجماعات الأهلية في الماضي مانع من التواصل مع «قوى أجنبية» في مقابل حكامٍ غالبًا ما كانوا هم أنفسهم قوة «أجنبية» في مقابل الجماعات الأهلية المحلية. فلم تكن الكيانات السياسية الإقليمية دولًا ذات سيادة. ولم تنشأ بعدُ الدولة/الأمة. خذ، مثلًا، حالة السلاجقة والبويهيين والفاطميين والأيوبيين والمماليك والإيلخانيين، والمغول عمومًا، وحتى السلالات العربية نفسها بوصفها نخبًا عسكرية غريبة، في بدايات الفتح على الأقل، في مصر وبلاد الشام وبلاد الرافدين. فمن كان الأجنبي؟ ومن الحاكم «الوطني» في هذه الحالات؟ وفي حالات أخرى عدّت جماعاتٌ محليةٌ الرابطَ الدينيَّ مع قوة «أجنبية» أقوى من الرابط مع قوى محلية تتعامل معها انطلاقًا من هويتها الدينية أو المذهبية.
وثمة ظاهرة جديدة هي عدُّ الأكثرية على مستوى الدولة طائفة، والتعامل مع ذاتها على هذا الأساس، وأصبحت لها تسمية هي «طائفة الأغلبية». وهذا دليل على تصرف الأكثرية كأقلية في دولة لا تشعر أنها دولتها بعد استنفار مشاعرها ضد من تعدّهم «أقلية حاكمة». كان الوعي الطائفي الأغلبي محليًا في كل مدينة وناحية على حدة، ولم يصبح طائفيًا قُطريًا إلا في إطار الدولة الحديثة الشاملة، وفي ظل تطور وسائل الاتصال التي تساهم أيضًا في تشكّل الشعب والقوميّة . فهي الآليات نفسها التي تستخدمها الطائفية على مستوى الدولة كلها.
وتتحدّد ظاهرة الطائفية التي يتناولها المصطلح بالسياقات التاريخية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، وبدرجة التنافس والصراع بين قوى اجتماعية وأنماط الوعي السائدة خلال الصراع. وهي متبدلة متغيرة، أي إنّها ليست نفسها في كل مرحلة تاريخيّة.
نجد عند جمال الدين الأفغاني (1838-1897) محاولة مبكرة لتخييل جماعة عابرة للبلدان والقارات تخييلًا واعيًا؛ وهي الأمة الإسلامية. فهي عنده ليست رابطة دينية اعتقادية، بل عصبية في مقابل العصبية القومية مثلًا. ففي مقالة له عام 1884 كتب في تعريف التعصب ما يلي: «التعصّب روح كلي مهبطه هيئة الأمّة وصورتها، وسائر أرواح الأفراد حواسه ومشاعره، فإذا ألمّ بأحد مشاعر ما لا يلائمه من أجنبي عنه، انفعل الروح الكلي، وجاشت طبيعته لدفعه، فهو لهذا مثار الحميّة العامّة ومسعر النعرة الجنسيّة، هذا هو الذي يرفع نفوس آحاد الأمّة عن معاطاة الدنايا وارتكاب الخيانات في ما يعود على الأمةِ بضررٍ أو يؤول إلى سوء عاقبة. وإنّ استقامة الطباع ورسوخ الفضيلة في أمّةٍ تكون على حسب درجة التعصّب فيها» .
نجد هنا تأكيدًا للرابط بين الانتماء إلى جماعة والفضيلة عند داعية نهضوي أخلاقي، واثقٍ بأن الانتماء إلى الجماعة هو أساس الفضيلة بتحديدها المنظومة الأخلاقية الجامعة، وبارتقاء الفرد بواسطة الانتماء إلى التفكير في المصلحة العامّة، وما يجوز وما لا يجوز في ثقافة المجموع، وإن لم يستخدم الأفغاني هذه المصطلحات. وهذا هو الأساس العقلاني لدور الهوية بوصفها تحديدًا لموقع في العالم الاجتماعي (ونقصد في هذه الحالة التعريف الذاتي للفرد من خلال الانتماء إلى جماعة) في الأخلاق والمنظومات القيمية لعموم الناس في رأينا أيضًا. ولكن الأفغاني لا يرى متى تنقلب إلى عكسها، ولا يضع الحد بين الانتماء والتعصب. «التعصّب كما يطلق ويرادُ منه: النعرةُ على الجنس ومرجعها رابطةُ النسب والاجتماع في منبتٍ واحد، كذلك توسّعَ أهل العرفُ فيه وأطلقوه على قيام الملتحمين لصلة الدين لمناصرةِ بعضهم بعضًا، والمتنطعون من مقلدةِ الإفرنج يخصون هذا النوع منه بالمقتِ ويرمونه بالتعس» .
لا تهم مقاربة الأفغاني؛ إذ ما كان مصدر لحمة الأفراد الجنس أو الدين أو النسب. وهو يؤكد أن التعصب الديني مقترَضٌ من التعصب لرابطة النسب والاجتماع، ومع ذلك يفضِّل عصبية الدين. وكان المسلمون في رأي الأفغاني يحفظون حرمة الأديان ويرعون حق الذمّة، ويدافعون عمن خضع لهم من الملل. والدليل على ذلك أنّ الملل ما زالت قائمة في ديارهم حتى عصره . فهو لا يدعو إلى التعصب الطائفي، بل يفترض أنّه لا فرق جوهريًا بين التعصب الديني والتعصب الجنسي، قبل أن يستنتج أن التعصّب الديني أقدس وأطهر وأعم فائدة . فهو بهذا المعنى يحاول أن يؤسس قومية جديدة بناء على عصبية الدين. ودعوة الأفغاني برمتها هي دعوةٌ إلى الاعتصام بحبال الرابطة الدينيّة التي هي أحكم رابطةً يجتمع فيها التركي بالعربي، والفارسي بالهندي، والمصري بالمغربي ، بحيث ينصر المرتبطون بصلة الدين بعضهم بعضًا.
وما يقصده هو إحياء الرابطة الدينية في أمة إسلامية واحدة، بدل استيراد فكرة القوميات في ذلك الوقت، والتي يسميها التعصب الجنسي، وذلك لمواجهة الغرب. ولا يرى الأفغاني الأسس الحديثة للقومية، وكذلك الأسباب الموضوعية لنشوئها في الشرق، ولا يرى منها إلا الإيمان بأصلٍ واحد. أما التعصب للدين فيعدّه تعصبًا لعقيدة، ولا يرى فرقًا بينها وبين عصبية المرتبطين بصلة الدين، وبين الأخيرة وما يسميه «العصبية الجنسية». ومن الواضح أن جهد التخييل هذا الذي بذله الأفغاني عبر تثقيف الأمة لم يثمر؛ فلم يصمد كثيرٌ من العصبية للأمة الإسلامية كلها، وما بقي في عصرنا هو نعرة الانتماء الديني المذهبي. وهو لا يشكل أمة إسلامية صاعدة في مواجهة الغرب، بل طائفةً شيعيةً وأخرى سنيةً، يجيز كلاهما لنفسه أن يتحالف مع قوى من ديانات أخرى، بما في ذلك القوى الغربية، في صراعه مع الآخر. وبهذا المعنى لم ينجم أي خير عن التعصّب الديني والنعرة على الأمة؛ إذ تحولت إلى نعرة على الطائفة.
ونحن نرى، في المقابل، نماذج كثيرة لأجوبة قومية عن التعصب الديني الذي يخلط تارة مع التدين ذاته وطورًا مع الطائفية. ففي مقالة لخليل سعادة (1857-1934) بعنوان «التعصب الديني في الشرق والشرقيين»، عام 1915. يرى أن التعصّب الديني في الشرق من أعمال الطبيعة، «فهو أشبه بطبقة من الطبقات الجيولوجيّة التي صرفت الطبيعة دهورًا في إنشائها». ويرجع التعصّب الديني إلى عصورٍ متوغلة في القدم، ويرجعه إلى التديّن ذاته. وأنّ الدين في الشرق جزء من حياته، فالشرقيون يعتمدون الحياة وسيلة لتشريف الدين لا الدين وسيلة لتشريف الحياة والسمو بها . وليس السبب الجهل، ولا الحل هو العلم، بل معالجة تعصب بتعصب آخر. فكما أن العلم لا يدرأ الجنون عمّن في عائلته جنون، كذلك فإن العلم لا يعالج التعصّب الديني في الإنسان الشرقي، فقد يقوّض إيمانه بالدين ولكنّه يُبقي على التعصّب الديني . وهو يقصد أن زوال التعصب الديني قد يبقي على التعصب الطائفي، ولذلك فالشفاء من التعصب ليس بالعلم. والعلاج الوحيد للتعصب الديني هو التعصب الوطني .
ومن ضمن هذه الأفكار لاستبدال عصبية بأخرى اقترح زكي الأرسوزي (1899-1968) أيضًا في مقالة له عام 1966، أنّ حل التعصّب الديني هو إقامة الإخاء القومي مقام التعصّب الطائفي المغلق، بتوحيد مناهج التدريس في مدارس وطنيّة واحدة، تخلق عقليّةً متجانسةً. ورأى أنّ سبب الانقسام الطائفي أو الطوائف مخلّفات عهدٍ بائدٍ، وسبب الانقسام الطائفي الشيعي - السني في رأيه هو صراع سياسي على الخلافة. لكنّ السبب زال نهائيًّا عن مسرح التاريخ وبقي الاختلاف. وهذا، في رأيه، سُخفٌ . لكن المشكلة لا تكمن في تبيين سخف الاختلاف الذي زال سببه عن مسرح التاريخ، بقدر ما تكمن في شرح الأسباب الجديدة لظاهرة الطائفة والطائفية وطبيعة البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تعيد إنتاجها. وهذه، في رأينا، لا نجدها في العصبية عند ابن خلدون؛ فهذه ظاهرة تاريخية أخرى.
المصدر: ضفة ثالثة