يمثل كتاب عزمي بشارة «في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟» (بيروت/الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تشرين الثاني/نوفمبر 2019)، محاولة منهجية أراد منها مؤلفه: «تفسير ظاهرة الشعبوية والإسهام في تطوير مفهومها، حيث أصبحت موضوعاً ملحاً في الآونة الأخيرة، مع رواج استخدام مصطلحها في الإعلام والأوساط الأكاديمية، ولا سيما في وصف حركات يمينية نشأت وانتشرت خارج الأحزاب المعروفة وسياسيين جدد برزوا وصعدوا من خارج المنظومات الحزبية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وسؤال العديد من المهتمين عن معناه، وهل من مفهوم محدد للظاهرة؟» (المقدمة ص 11).
هنا جزء ثان من مراجعتي لهذا الكتاب:
انكفأت الشعبوية في أوروبا بعيد الحرب العالمية الثانية، لتنشط في دول العالم الثالث، مكتسبة مضامين جديدة مع قومية عبد الناصر، وجماهيرية القذافي، وتحولت إلى حركات شعبية بإيحاءات وطنية واجتماعية أسقطت من حساباتها النضال الطبقي، مع خوان بيرون في الأرجنتين، وغيتوليو فارغاس زعيم حزب العمال غير الاشتراكي في البرازيل، وغيرهما. واستمر مصطلح الشعبوية في ثمانينيات القرن الماضي، مع عودة المحافظين إلى الحكم في عهد مارغريت تاتشر (بريطانيا) ورونالد ريغان (الولايات المتحدة الأميركية)، وفي الردة العنيفة تجاه موجة التعدد الثقافي التي عرفتها الجامعات آنذاك. وفي تسعينياته، حمّل مفكرون العولمة مسؤولية صعود التيارات الشعبوية الذي يترافق مع إنشاء منظمة التجارة العالمية، وتحرير التدفقات المالية الدولية، وتباطؤ النمو العالمي، وتفاقم عدم المساواة في الدخل والثروة، وانعدام الأمن الاقتصادي، وتزايد موجات الهجرة العالمية.
|
مع مطلع الألفية الثالثة، تقدمت الحركات الشعبوية في الاستحقاقات الانتخابية متشاركة قضايا: الهجرة واللجوء، سياسات التقشف المالي التي أثّرت على الإنفاق الحكومي والخدمات الحكومية، النزعة القومية، الدفاع عن الهوية الوطنية، التركيز على سياسات الدفاع، والموقف السلبي من حقوق الإنسان. وفي العام 2016 تردد المصطلح بشكل غير مسبوق في المنابر الإعلامية عند كل عملية اقتراع، ووجد البعض شعبوية في أي خطاب سطحي يهدف إلى تعبئة الجمهور واستثارته عاطفيا بعيدا عن أي حكم نقدي (خطاب الجبهة الوطنية الفرنسية، أحزاب البديل الألماني، ويوديموس الإسباني، والحرية النمساوي، وحركة النجوم الخمس في إيطاليا...)، وتمثلت لدى البعض في أشخاص كاريزميين يمتلكون مهارات خاصة في القيادة وقدرة على السيطرة على توجهات الجمهور، وفق دعاياتهم وخطابهم الثقافي البسيط (شعبوية دونالد ترامب في أميركا، وفلاديمير بوتين في روسيا، ورجب طيب أردوغان في تركيا).
ضد الديمقراطية: شعبوية عالمثالثية
سبق لأوليفييه إيهل أن رأى صعوبة في تحديد معنى الشعبوية، لكونها ليست مفهوما بل مصطلحا، لا يستخدم للتحديد بقدر ما يتم استخدامه للتنديد، وهو استخدام يختلف بحسب التقليد، فبينما تشير الشعبوية في أميركا اللاتينية إلى الحركات اليسارية، فإنها في أوروبا تعني عادة اليمين المتطرف. أما بشارة فيتقدم في البحث موضحا أن الشعبوية اليسارية خارج أوروبا، في أميركا اللاتينية مثلاً، ليست إثنية كما هي حال الشعبوية اليمينية في أوروبا، بل تركّز على الجانب الطبقي بين الأغنياء والفقراء (كما في فنزويلا وغيرها قبل العام 2019). لكن هذه الشعبوية اليسارية غير المتحالفة مع الديمقراطية لم تعد هي الشعبوية الوحيدة إذ باتت تواجه تحديا متمثلا بصعود الشعبوية اليمينية.
بعد الاستقلال، أنشأت الشعبويات اليسارية، في آسيا وأفريقيا، أيضا أنظمة سلطوية أو شمولية باسم الشعب بعد تفشي ظاهرة الانقلابات العسكرية. كما عمّت النظم الشعبوية المنطقة العربية منذ النصف الثاني من الخمسينيات، ورأى خطابها الشعبوي أن الديمقراطية الليبرالية غربية ورأسمالية لا تلائم ثقافة العرب، واختزل هذا الخطاب حكم الشعب في التعبير عن مصالحه وإرادته وتماهيه مع قيادته الكاريزمية، ووجد في الحالة الحزبية تقسيماً للأمة وبعثرة لإرادتها، فقدّست وحدة الشعب الطيب ضد الأحزاب، وكان ذلك ذريعة لقمع المعارضة وحرية الصحافة، فتجاوزت شعبوية تلك الأنظمة حدود الشعبوية، وانتقلت إلى سلطوية فاشية أو شبه فاشية احتكرت العمل السياسي ومصادر القوة، وتآكلت منجزاتها التنموية الأولى بسرعة بفضل سياسة تعبئة الموارد عبر مركزية القطاع العام، الذي نخره الفساد إلى جانب فساد بيروقراطية الدولة المدنية والعسكرية. وترفعت هذه الأنظمة الشعبوية عن تصنيف يمين ويسار، أو تنقلت بينهما بسهولة تبعا لتنقل تحالفاتها الدولية.
على صعيد البحث في الشعبوية العالمثالثية ومقارنتها بالشعبوية في النظم الديمقراطية، يصل بشارة إلى إحدى النتائج الهامة، ألا وهي اتضاح حدود الشعبوية بوصفها ظاهرة مميزة في النظام الديمقراطي، إذ يمكن تمييز الشعبوية التي تصارع على احتكار الحديث باسم الأغلبية وعلى تمثيل الشعب ضد ما تعتبره أشكالاً تزوّر هذا التمثيل عبر الاجسام الوسيطة (أحزاب وغيرها) من الأحزاب والتيارات الأخرى الملتزمة بالنظام الديمقراطي. لكن الحال مختلفة في الدكتاتوريات، فبينما يسهل تحديد الأنظمة السلطوية في العالم الثالث وتمييزها من الأنظمة العسكرية المحضة والملكيات المطلقة والدكتاتوريات البيروقراطية، فإن ذلك يبدو صعبا حين نريد تمييز الشعبوية عن غيرها ضمن تيارات المعارضة، إذ أنها جميعا قد تستخدم الشعبوية ضد نظام الحكم الدكتاتوري.
من المعارضة إلى الحكم ومن التعددية إلى الجمهور
وصول ساسة شعبويين إلى الحكم في دول أوروبية عديدة، وحتى في ديمقراطيات عريقة كالولايات المتحدة الأميركية، دفع ناديا أوربيناتي في كتابها «أنا الشعب: الشعبوية كيف تحوّل الديمقراطية» إلى التعامل مع الشعبوية بوصفها مشروعاً في الحكم، يتضمن تحويل أعمدة الديمقراطية الثلاثة (الشعب، مبدأ الأغلبية، والتمثيل)، وبهذا يتم الانتقال من التعامل مع الشعبوية من كونها مشروع معارضة إلى اعتبارها مشروعا في الحكم يستهدف تغيير النظام الديمقراطي من داخله بوسائل دستورية، وإن كانت بالأصل ديمقراطية، إلا أنها تمثل الشعب بطريقتها في بناء ذات جمعية، فتقوم بعملية التمثيل الديمقراطي على نحو يشوه الديمقراطية الليبرالية نفسها بوصفها الديمقراطية الوحيدة الممكنة في عصرنا.
للوصول إلى "ديمقراطية شعبوية" (اسم لهذا الشكل الجديد من الحكومة التمثيلية) تستهدف الشعبوية مباشرة الأجسام الوسيطة (أحزاب ومؤسسات إعلامية ورقابية ونحوها). في هذا الشكل من الحكومة تكون العلاقة مباشرة بين القائد والمجتمع الذي يحدده القائد بوصفه شعبا محقا وطيبا دائما، ويوصف المجتمع المناصر غير المنخرط في السياسة والأحزاب بأنه متفرجون أو جمهور (audience). هؤلاء القادة ليسوا ممثلين (representatives) بل يمثلون (act) أدواراً من خلال نفاذهم من الشروخ الاجتماعية والانقسامات الحزبية. الشعبوية تكمن في هذا النوع من التمثيل، وتنمو مع تحول المواطنين إلى جمهور في حالة سيولة، وعلاقات شبكية أفقية، مع تراجع الولاءات الحزبية، ووسائل إعلام ومواطنين مستقلين عن الأحزاب والسياسة، في أجواء من التنافس الانتخابي ذي طابع شخصي، ومركزية السلطة التنفيذية مقابل تراجع دور البرلمان، مع تزايد دور وأهمية الإنترنت.
يرى بشارة هنا أن أوربيناتي «تموضع ظاهرة الشعبوية في عملية الانتقال من ديمقراطية تعددية حزبية إلى ديمقراطية الجمهور/المشاهدين (Audience Democracy / Democracy of the Public)» (ص 62).
تعريف الحد الأدنى للشعبوية باعتبارها استراتيجية ترى فيه أوربيناتي تجاهلا للسياقات التاريخية لصالح أعلى درجة من العمومية. من هذه التعريفات التي لا تقول الكثير عن تميز الظاهرة يسوق بشارة تعريف كورت ويلاند الذي يصفها بأنها «استراتيجية القائد الذي يحاول الحصول على سلطات فائضة على أساس العلاقة المباشرة غير المتوسطة وغير الممأسسة مع جمهور واسع من المؤيدين» (ص 62). أما التعريف المكسيمالي لها بوصفه تعريف الحد الأقصى، والذي يربط الشعبوية بالديمقراطية مباشرة، فترى أوربيناتي أنه لا يتعامل مع الشعبوية بوصفها نظرية وحسب، بل كبرنامج عملي يطرح مفهوما تركيبيا للشعب، ليتقاطع مع الأيديولوجيا بتشديدها على البعد البلاغي للظاهرة.
برأي بشارة أنه بخلاف الفهم الأيديولوجي الذي تنزلق إليه الشعبوية بين: نحن/الشعب/الأخيار من جهة وبين: هم/السياسيون/ الفاسدون، لا يؤسس التعريف النظري الأكاديمي نفسه على تمييز مانوي بين أخيار وأشرار. ولكن إرنستو لاكلو، مؤسس النظرية الماكسيمالية، ينحاز إلى الشعبوية اليسارية، ويجعل الشعبوية رديفا للسياسة والديمقراطية لتصبح صيرورة تركّب بواسطتها جماعة المواطنين نفسها بحرية بوصفها ذاتا جماعية (الشعب) تقاوم جماعة (غير شعبية)، وتقاوم الهيمنة المضادة في طريقها لانتزاع السلطة.
أيديولوجيا أم مزاج سياسي؟
يعتبر البعض الشعبوية عموما أيديولوجيا ضامرة (Thin Ideology) مضطرة إلى تحديد ما تتناوله من قضايا؛ تلك التي تمتلك إجابات عنها. فينفي كريستوبال روفيرا كالنفاستر، في كتابه «استجابة الشعبوية ردا على تنامي المعضلات الديمقراطية»، تصنيف الشعبوية إلى ديمقراطية أم معادية للديمقراطية، كما أنها ليست حالة مرضية تصيب الديمقراطية بل أيديولوجيا «تطرح أسئلة شرعية صعبة إن لم تكن مستحيلة الحل بالوسائل الديمقراطية» (ص83).
الشعبوية برأي بشارة خطاب يقوم على مزاج سياسي ثقافي غاضب، وليس أيديولوجيا، هذا الخطاب/الجوكر، إن جاز التعبير، قد يستخدم في خدمة أيديولوجيات متنوعة منها محدودة/غير كثيفة المضمون كالقومية، ومنها موسّعة/مكثّفة كالشيوعية والفاشية، والأصولية الليبرالية في حالات منها استثنائية. لا يتنافى ذلك مع أنه يمكن تحويل هذا الخطاب إلى أيديولوجيا في حالات متطرفة، كما تقدم عند بشارة، تقوم على التصنيف التمييزي أو المعياري بين نقاء الشعوب وفساد النخبة، ومخاطرها على الديمقراطية.
في أوروبا الغربية يلحظ بشارة بعض حالات الشعبوية التي تذهب لاعتبار بعض منجزات الانفتاح الاجتماعي والتنوير جزءا من الهوية الإثنية الثقافية للشعب، لكنه ينبّه أن هذا المزاج السياسي (الشعبوية) يبقى غير ودود لليبرالية عموما، فما يبدو دفاعا عن بعض المنجزات الليبرالية في الغرب، من قبيل الحريات الاجتماعية وحقوق المرأة، وحقوق المثليين أحيانا، إن هو إلا موقف يبدو ظاهره تحرريا، مع أن الغرض منه إثارة المخاوف من الآخر، لا سيما المهاجرين المسلمين.
الشعبوية: الحدود بين اليمين واليسار
يذهب بشارة إلى أن النقد الشعبوي من اليمين واليسار، والذي يوحي بأزمة جديدة للديمقراطية الليبرالية في أوروبا، لا يمكن فهمه دون أن نأخذ بالاعتبار انهيار أو تفكك إجماع ما بعد الحرب العالمية الثانية حول طبيعة الديمقراطية الليبرالية في دول الرفاه الاجتماعي، وصعود النيوليبرالية من جهة أخرى. لقد بدأت هذه الأزمة الجديدة بعد أن بدا أن الديمقراطية الليبرالية قد حققت انتصارها النهائي على النظم الشمولية في بلدان المعسكر الاشتراكي. فلا تزال الديمقراطيات الغربية مثقلة بالتوترات والصراعات والمطالب والتوقعات، والسعي الجماهيري لتحقيق استحقاقات مباشرة وآنية على حساب المستقبل و«الجمع بين عدم الثقة بالدولة وانحسار التوقعات منها، وتوجيه غالبية المطالب إليها في الوقت نفسه. وتتغذى الأزمة بتعمق اللامساواة مع انهيار إجماع ما بعد الحرب العالمية الثانية على دولة الرفاه وهيمنة النموذج النيوليبرالي وتضرر الطبقة الوسطى والعمال الصناعيين، الذين انتقلوا إليها في مرحلة دولة الرفاه من العولمة وحرية التجارة والاستثمار؛ وهو ما أدى إلى ما يمكن تسميته بالفسخ النيوليبرالي بين الديمقراطية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية، أو بين مبدأي الحرية والمساواة. ويرافق توسع الفجوة في المداخيل الهوس الاستهلاكي وتزايد الحاجات في الوقت نفسه، ومضاربات سوق المال، وما يترتب عليه من نتائج وخيمة» (ص 64).
ولكن من يوجه الغضب ويقود الغاضبين؟
لم يعد اليسار الذي يشدد على مكون المساواة في الديمقراطيات هو صوت الغاضبين خلف شعارات العدالة الاجتماعية وزيادة تدخل الدولة في ضبط نشاط رأس المال، بل اليمين الشعبوي، وهو لا يقود إلى المساواة بل نحو التجانس الإثني، الديمقراطية الإثنية، وحتى تفوق العرق الأبيض، فيعبئ الجمهور الغاضب ويطالب الحكومة بإحقاق العدالة في إطار الثقافة الإثنية وأخوة الهوية، وقرع الطبول ضد المهاجرين، ومن دون برنامج اجتماعي. إذا كانت هذه شعبوية، فإنها هوياتية، كما يراها بشارة، تتخذ مظاهر إثنية أو طائفية أو جهوية بحسب البلد. وفي مقابل توزيع عملية القرار إلى هيئات دولية ومواثيق عالمية وتصدير المشاريع إلى الخارج تعد هذه السياسة المواطن بهوية و«استعادة السيطرة» بإعادة توطين القرارات في مجتمع متماسك ومألوف. وثمة تشابه اليوم بين هذا المزاج وذلك الذي أنتج شعارات الفاشية والنازية بعد الحرب العالمية الأولى، مع فارق مهم يتمثل في التعلّم من التجربة، ورسوخ النظام الديمقراطي، الذي تعود الناس معه على الحريات بوصفها نمطا حياتيا.
يضيف بشارة أنه ليس مصادفة ألا يجد اليسار موطئ قدم في الشعبوية الهوياتية، وإن صاغت بلغتها مظلومية اجتماعية طبقية، ولكن هذه ليست لغة اليسار، الذي يصعب عليه أن يصبح شعبويا في هذا السياق من دون مخاطبة الهويات، ما قد يوقعه في فخ بلاغة اليمين الشعبوي وإعادة تمثلها وإنتاجها.
تنتج أزمة الثقة بالسياسة والسياسيين (وهو ما سنتطرق إليه بتوسع عند بشارة في الجزء القادم) في نهاية المطاف حلولا سياسية زائفة؛ إذ تبحث عن الثقة في الهوية المشتركة. ولا تلبث أن ترى في الآخر والغريب عائقا أمام تطبيق هذه الحلول، فهو عائق أمام التجانس والحميمية المنشودة لهذا الحل. ويقوم اليمين المتطرف بمهاجمة إتاحة الليبرالية لـ«الآخرين» القيام بدور سياسي واقتصادي، وحتى ثقافي. ولا يلبث أن يستخدم هذا الخطاب الشعبوي في نقل الهجوم إلى استهداف الديمقراطية الليبرالية ذاتها، في ظل عجز اليسار عن القيام بهذا الدور. إنه بحسب بشارة "يمين من دون يسار"، إذ يلاحظ بشارة أنه، في نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحادي والعشرين، قامت دول في أوروبا الشرقية بعد سقوط المنظومة الاشتراكية التي خلت عمليا من اليسار السياسي؛ فبعد التخلص من النظام الاشتراكي لم يبق يسار سياسي ينافس اليمين أو القوميين أو غيرهم. ومع أنه وضع يشبه الولايات المتحدة أكثر مما يشبه أوروبا الغربية، فإنه ينتقل بالتدريج وبسرعات ووتائر مختلفة إلى أوروبا الغربية.
"اللحظة الشعبوية": جمع بين اليمين واليسار
قبل سيطرتها سياسيا وفي ظل الهلع من تكرار تجربة الشعبوية السياسية التي ميزت ديمقراطيات ما بعد الحرب العالمية الأولى، صُمّمت المؤسسات الأوروبية الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية لتقييد سلطة الأغلبية (الدساتير، إتاحة المشاركة للأحزاب غير المعادية للديمقراطية، دور القضاء الدستوري..). ومستفيدة من دروس أزمة الاقتصاد العالمي العام 1929، تم السعي إلى تدخل الدولة في الاقتصاد الذي يتيح تقييد حرية السوق للوقاية من الأزمات الاقتصادية الكبرى. ويذهب بشارة إلى أنه حتى في القرن الحادي والعشرين يصعب فهم موجة الشعبوية التي اجتاحت أوروبا والولايات المتحدة من دون الوقوف عند الأزمة الاقتصادية لعام 2008 والتي ألزمت الإدارة الأميركية، وغيرها، بالتفكير في تشريعات جديدة تتدخل، خلافا للمعتاد، في سوق الأوراق المالية، وفي أعمال المصارف.
إن أحد مصادر جمع الشعبوية بين اليمين واليسار بحسب بشارة هو الفسخ النيوليبرالي السالف ذكره أعلاه، وبروز ظاهرة العودة إلى الهويات المحلية والإثنية في مواجهة عولمة القيم وتنميطها. وأدى هذا الفسخ إلى تراجع الطبقة الوسطى وتضرر فئات واسعة من العولمة والتجارة العالمية، وحرية تدفق الاستثمارات بحثا عن عمالة أرخص في بلدان لم تتحقق فيها بعد منجزات نقابية وحقوق عمالية.
في بحثه (مستقبل التاريخ: هل يمكن للديمقراطية الليبرالية الصمود في مواجهة انحسار الطبقة الوسطى) (2012) دعا فرنسيس فوكوياما إلى أيديولوجيا جديدة يحتاجها الديمقراطيون، تقدّم السياسة الديمقراطية على الاقتصاد، وتبتكر وسائل لتقديم الخدمات باستخدام تكنولوجيا متطورة تحاجج لإعادة التوزيع، وإنهاء اعتماد القطاع العام على جماعات المصالح وتحرير السياسة من سيطرتهم. لكن فوكوياما لا يتوقف هنا، بل يطالب أن تكون هذه الأيديولوجيا شعبوية مرتبطة بالقومية كاستراتيجية للتعبئة لا بالجماعات الهامشية التقدمية، وأن تجمع بين اليمين واليسار. هنا يتساءل بشارة «كيف يمكن التحكم في نتائج نشر أيديولوجية شعبية بالتنظير لها سياسيا بوصفها استراتيجية للتغيير؟» ويضيف «لقد أثبتت التجربة أنه يمكن استثمار الشعبوية لصالح رأسماليين فاسدين متحالفين مع نخب سياسية فاسدة باستخدام خطاب عنصري شوفيني يجمع بين العداء للأجانب والنخب الليبرالية» (ص91).
وترامب نموذج مناسب هنا كما يرى بشارة، فالنقد "اليساري" لحرّية التجارة طبقّه ترامب بوضع الحواجز الجمركية، وإعادة النظر في اتفاقيات التجارة الحرة، وشن حروب تجارية، وإغلاق الحدود أمام مهاجري الدول الفقيرة، ورفع شعارات شوفينية نحو: "أميركا أولا". التدقيق في هذه الخطوات الترامبية يجعلنا، كما يذهب بشارة، نستنتج أن سياسات ترامب الشعبوية قد جمعت بين اليمين واليسار.
دعوة فوكوياما لتبني الشعبوية لم تكن الأولى، إذ توافر قبله بسنوات تأسيس نظري لتبني الشعبوية لكن بوصفها استراتيجية يسارية. وفي كتابها «من أجل شعبوية يسارية» (2019) تشرح شانتال موف؛ أنه على خلفية «حالة ما بعد السياسة» (والتي تعني عمليا «ما بعد الديمقراطية»)، التي نشأت نتيجة لخضوع تياري اليسار واليمين المركزيين في أوروبا الغربية لهيمنة النيوليبرالية، حل في غياب بدائل سياسية حقيقية نوع من الإجماع على النيوليبرالية مكان الإجماع على دولة الرفاه ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى هذه الخلفية نشأت ما تسميه «اللحظة الشعبوية» نتيجة إطلاق الحرية لقوانين السوق والتجارة والخصخصة، وتقليص التحويلات الاجتماعية، والتقشف في مخصصات الخدمات الاجتماعية في ميزانيات الدولة للحفاظ على توازنها، وتفادي العجز على حساب تراجع الإنفاق العام.
في خضم ذلك، رأت موف أنه كان من الضروري أن يتبنى اليسار خطابا غير معاد للأجانب والأقليات وغيرها، لجذب هذه الفئات بعيدا عن شعبوية اليمين. في هذه الشعبوية اليسارية ذات الخلفية الديمقراطية الراديكالية ترى موف استراتيجية ملائمة لاستعادة مُثل المساواة والسيادة الشعبية المكونة للسياسة الديمقراطية وتعميقها. لكنها، بحسب بشارة، ومع تأكيدها على بعدي المساواة والحرية، فهي في الحقيقة تصوّر الصراع بين الديمقراطية والليبرالية، أي بين الحرية والمساواة، كأنه صراع بين اليسار واليمين، لتستدعي مقولات «العدو والصديق» وإن بصيغة مخففة؛ فتستخدم بدلا منها مصطلح «الخصوم»، وهي لا تعتبر السياسة القائمة على انقسام «نحن» و«هم» بين خصوم (وليس أعداء) خطرا على الديمقراطية، بينما لا يعتقد بشارة أنه يمكن التحكم في مثل هذا الانقسام بعد التحشيد له.
شعبوية «نحن» مقابل نخبوية «هم»
يبين بشارة أنه لا ضرر على الديمقراطية من تبني اليسار خطابا مساواتيا "شعبويا"، خصوصا أن هذا اليسار سرعان ما يتبنى سياسات أكثر قربا من التيارات المركزية التي حكمت حالما يصل إلى الحكم (اليونان نموذجا)، ولا ضرر على الديمقراطية كذلك من صعود حركات احتجاج على سياسات وأوضاع قائمة، ترفع مطالب عينية، بحيث تجمع ناشطين من مشارب أيديولوجية مختلفة، والطبيعي، وفق بشارة، أن تجمع الحركات الاحتجاجية المطلبية الناس على مطالب وليس على أيديولوجيات.
إذاً أين تكمن المشكلة؟ ينبّه بشارة أن المشكلة بالنسبة إلى النظام الديمقراطي تنشأ عند التقاء أفراد وحركات من مشارب وأيديولوجيات مختلفة في حراك وتجمعات، يتشاركون فقط الغضب على النخب السياسية في العاصمة، والنقمة على الأحزاب والبرلمان والقضاء والمثقفين الليبراليين، والنظر إلى هؤلاء «الخصوم» بوصفهم الآخر أو «العدو» بحيث تتشكل «نحن» شعبوية تحتكر التعبير عن الشعب، في مقابل «هم» نخبوية.
هذا الانقسام بين «نحن» و«هم»؛ «نحن» و«العدو» أي الآخر المختلف جوهريا ووجوديا، وقابلية الانخراط ضده في صراع غير محدد بقواعد مسبقة، ولا أخلاقيات مشتركة، يحول الصراع بين «نحن» و«هم» وازدواجية المعايير والكيل بمكيالين إلى القاعدة وليس الاستثناء، لأنه لا يمكن تخيل أن يحكم التعامل مع العدو والصديق بالمعايير نفسها.
لا تحتمل الديمقراطية انقساما حادا بين «نحن» و«هم» من دون «نحن» جامعة لجميع الـ «نحن» والـ «هم» الممكنة، مهما كانت هذه الـ «نحن» الجامعة ضامرة. فالتعددية ممكنة تحت سقف الإجماع على الدولة/الوطن. أما الانقسام الهوياتي من النوع المذكور فيختزل السياسة إلى بنى غير تداولية ولا تبادلية بل محصّنة في هويات، ومجرد الصراع بينها ليس تعددية تنافسية، بل يشبه التعددية الاجتماعية ما قبل السياسية، بين قبائل وطوائف أكثر مما يشبه التعددية الديمقراطية.
إضافة إلى ذلك، فإن احتكار تمثيل الشعب، واعتبار الخصم خارج هذا الشعب، ينتجان خطابا إقصائيا، يمهد لممارسات إقصائية قمعية، والانزلاق من الشعبوية إلى الفاشية، ويسهل خطر الشعبوية الثاني ممثلا في ضيقها بالمؤسسات الوسيطة مثل الأحزاب والصحف، وصولا إلى البرلمان ذاته، ووضع الثقة بقائد يتفاعل معه الشعب مباشرة من دون وسطاء، ويدعي أنه يتمثل هموم الشعب ويمثل إرادته. هذا الانقسام الهوياتي بتجاوزه التنافس على فهم الصالح العام، إلى صراعات بين مصالح قطاعية فحسب، يدفعنا «إلى مغادرة السياسة نحو الحرب والإلغاء، وإما العودة بها إلى القبلية الاجتماعية التي لا تتيح سياسة تعددية تداولية، بل تقود في أفضل الحالات إلى محاصصة تتعامل مع الدولة ومواردها على نحو تهارشي (أو افتراسي) بوصفها غنيمة. وإذا كان هذا أساس الشعبوية، فلا يمكن أن تكون شعبوية ديمقراطية» (ص100- ص101).