عوض عبد الفتاح
إنشد الفلسطينيون في الجليل والمثلث والنقب في الايام الاخيرة، مثل جميع الفلسطينيين والعرب، إلى التطور الدراماتيكي على الساحة اللبنانية المتمثل بالهزة السياسية التي أحدثتها المعارضة اللبنانية من خلال اجتياحها لبيروت الغربية ومناطق أخرى. إن تفاعلهم مع ما يجري على تلك الساحة لا يقل عنه مع الساحة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية خاصة بعد علوّ شأن المقاومة اللبنانية وبسبب صمودها في وجه العدوان الإسرائيلي. فالمشاعر القومية فضلاً عن الوطنية، التي يحملونها ليست جديدة، فهي تمرّ في مدّ وجزر وفقاً لنوع الأحداث. ويبدو إن الغالبية الساحقة من فلسطينيي الداخل يؤيدون المعارضة والمقاومة اللبنانية، وأيّدت غالبيتهم إقدام المعارضة في السادس من أيار على الدفاع عن نفسها من أعداء الداخل. إنهم يرون لبنان وحركته الوطنية وهي مستهدفة أمريكياً وصهيونياً مثل فلسطين وسوريا والعراق وكل الوطن العربي. بطبيعة الحال هناك بين عرب الداخل أوساط جرفتهم الأسرلة والتشوه سواء من الأفراد أو السياسيين العرب في الداخل.
مع كل هذا الإنشداد والإهتمام في الداخل بأحداث لبنان وفلسطين، وكذلك العراق، فقد أثار خبر منح المؤتمر القومي العربي المنعقد في صنعاء، ثقته للدكتور عزمي بشارة وانتخابه رئيساً للدورة التاسعة عشرة للمؤتمر ، اهتمام العديد من أهلنا في الداخل وشد مشاعرهم. كان في هذه الخطوة رمزية كبيرة ومسؤولية وثقة في إدارة أعمال المؤتمر، وقد تحولت بحد ذاتها الى خبر هام من أخبار المؤتمر لأن الحديث عن شخصية بارزة ومعروفة عربيا.
لا يعرف الكثيرون عن حيثيات وتركيبة ودور هذا المؤتمر، ولكن كونه هيئة قومية عربية من كل الأقطار العربية ينتسب إليه المئات من كبار الشخصيات المثقفة والسياسية ذوي التوجه القومي والإسلامي واليساري يجمعهم كونهم وحدويين يرفعون راية مشروع نهضوي عربي، يترك شعوراً بالإعتزاز لدى عرب الداخل، كما سمعنا عن الشعور الحار تجاه هذا الخيار في المؤتمر. ففيما عدا كون الحديث عن مفكر معروف ومناضل أصغر من معدل الأعمار في المؤتمر ويطرح أفكارا ديمقراطية تجديدية، فهذه المرة الأولى التي تتبوأ شخصية عربية من فلسطين – فلسطين 48 – موقعاً عربياً جامعاً. إنه "فتح" لساحة، هي ساحة الوطن العربي الفسيح، كانت تتحفظ حتى فترة قريبة من التعاون، أو بناء العلاقات، مع فلسطينيي الـ 48. وقد ظلت أوساط قومية واسعة على نفس الموقف المتحفظ لفترة طويلة حتى بعد هبة يوم الأرض هذه الهبة التي أحدثت الكسر الأول مع حالة السكون والخوف التي فرضتها الدولة العبرية على هذا الجزء من الشعب الفلسطيني والأمة العربية.
وجاءت الإنتفاضة الفلسطينية الثانية والهبة الشعبية العارمة داخل ما يسمى الخط الأخضر، لتلقي الضوء مجدداً على مكانة ودور عرب الداخل في الصراع
نعم لا ننكر أنه كان هنالك بعض الحق في الموقف. فقد غطى هؤلاء المحتفلين من عرب الداخل ب"عيد استقلال اسرائيل" على صوت القوى الوطنية التي كانت قائمة منذ البداية والتي منعت من التنظيم. ومنذ أن وحدها التجمع الوطني الديمقراطي عام 1995 وخاض الانتخابات، ظهر احياء ذكرى النكبة، وظهر الوجه الآخر لعرب الداخل منظما منافسا متنافسا صانعا للخبر عن عرب الداخل.
وقبل هذه الهبات كان نجم عزمي بشارة قد بدأ يلمع في سماء الوطن العربي بعد أن لمع في سماء فلسطين كمناضل، وكمفكر قومي، وكمتحدث بليغ وكخطيب يلهب الحماس. وكان موقفه السياسي مع هذه الإنتفاضة والهبة حاداً ومميزاً وجريئاً وعقلانياً. هكذا كان موقفه ايضاً من حق المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق فيما بعد، ومن إنسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان عام 2000 تحت ضربات المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله مما أثار ضده جوقة تحريض عنصري وسلسلة محاكمات تُوّجت بالمؤامرة الاخيرة التي اجبرته على اللجوء الى المنفى المؤقت. ولعلّ ما ضاعف غضب المؤسسة الإسرائيلية على بشارة، موقفه القومي ضد حرب إسرائيل على لبنان عام 2006 وتأييده لحق المقاومة في الدفاع عن نفسها وعن شعبها. وما شدّ إليه أيضاً الأنظار من كل المستويات؛ المثقفون الوطنيون والسياسيون وعموم الناس هو مواجهة الصهيونية، جوهر إسرائيل، وطابعها الكولونيالي. وقد قام بذلك عبر إستحداث معادلة حديثة تجمع بين الهوية القومية والديمقراطية وفكرة المواطنة، وتطرح حلاً إنسانياً وديمقراطياً للمسألة الفلسطينية والمسألة اليهودية في فلسطين ضمن مشروع عربي قومي ديمقراطي وازداد تأثيره على الخطاب السياسي لعرب الداخل بل تحول إلى الخطاب السائد. كما ازداد الإهتمام به في العالم العربي وإنشد إلى خطابه القوميون العرب، ووجدوا فيه رفيقاً صلباً وعوناً لهم في نشر أفكار هذه التيار المتهم بالجمود بغير حق، خاصة أنه جاء من حلبة المواجهة، السياسية والأيدلوجية، المباشرة مع المشروع الصهيوني. فعلى صعيد الموقف، يتبنى موقفاً وطنياً وقومياً مناهض لمشروع التجزئة الإستعماري. وعلى مستوى الفكر السياسي-القومي أضاف بشاره إلى الإسهامات الهامة التي أنتجها مفكرون ومثقفون ونهضويون عرب منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم محافظاً على عناصر الفكرة القومية العربية الحديثة الأساسية: الوحدة القومية، والديمقراطية والمواطنة الديمقراطية، واعتبار الإسلام مكون أساسي من مكونات القومية العربية.
عام على المنفى القسري
حين تكشفت المؤامرة المخابراتية ضد الدكتور عزمي بشارة في آذار من عام 2007، وخاصة بعد أن تبيّن لعموم المناصرين عند عرب الداخل وللذين يقدرون مكانته وإن اختلف بعضهم معه حول أحد جوانب فكره: التوجه القومي أو فكرة المواطنة الديمقراطية أو التمسك بعناصر من فكر اليسار، أو دفاعه الدائم عن الإسلام ضد العنصرية الأوروبية والاميركية، شعر هؤلاء بالصدمة بل عبّر البعض مما كان إعجابهم به شديداً، عن شعورهم باليتم.
كان الشعور بالغضب من المؤامرة عارماً، ولذلك كانت المشاركة في الإجتماع الشعبي الذي عقده التجمع في مدينة الناصرة أوائل نيسان من نفس العام 2007 حاشدة وغير مسبوقة. لقد تأكـّد من هذه المشاركة ومن الالتفاف الوطني الذي تبعها أن عزمي بشارة لا يعبّر فقط عن مواقف وأنصار ومؤيدي التجمع، بل أيضاً عن أوساط واسعة خارج التجمع الذين رأوا به قائداً مميزاً لعرب الداخل، ومعبراً عن طموحاتهم وليس فقط عن مشاعرهم. على خلاف القيادات الحزبية والقوائم الانتخابية بالمعنى الضيق والتي لا تستجيب لشروط القائد الوطني.
لقد إختفت مظاهر الحيرة والصدمة بين المناصرين والأصدقاء والأوساط الشعبية العديدة بعد فترة قصيرة من الاعلان عن المؤامرة. فالمؤسسات القيادية للتجمع وبالتنسيق الكامل مع الدكتور بشارة، اعتمدت، إستراتيجية الهجوم بدل الدفاع وكشفت المؤامرة التي لا تستهدف عزمي بشارة إلا لأنه جسّد مرحلة التطور السياسي والوطني الذي شهدته جماهيرنا، ولأنه كان رأس حربة المشروع القومي الثقافي الذي انطلق به حزب التجمع عام 1995 ولأنه خرج من الغيتو الإسرائيلي إلى العالم العربي. بل رغم هذه المؤامرة واصل حزب التجمع بقيادته الجماعية دوره الجماهيري والسياسي ومعاركه الإنتخابية بكل قوة مذللاً الكثير من الصعاب والتحديات التي واجهته والتي لا تزال تواجهه.
وتتمثل بعض هذه التحديات في حملة الضغط والتضييق على التجمع التي استأنفت مؤخراً عبر استدعاء كوادر وأعضاء من الحزب للتحقيق البوليسي والمخابراتي لساعات طويلة – وتحذيرهم بأن اي إتصال مع عزمي بشارة قد يضعهم في دائرة الخطر لأنه بنظر المخابرات يخدم أعداء إسرائيل. جاء تجدد الحملة بعد أن تجنب بشارة الوقوع في مؤامرة فبركة ملف أمني ضده، ولكنها فشلت في إبعاد الناس عن الحزب ومشروعه. فالمؤسسة السياسية والأمنية تواجه معضلة في كيفية التعامل مع الحزب باعتباره حزباً قانونياً (حسب القانون الإسرائيلي) ولكنه يطالب بإلغاء الأسس التي تقوم عليها دولة اليهود ومبررات وجودها: ألا وهي خدمة اليهود فقط والسيطرة على السكان الأصليين وأراضيهم ونهبها.
لقد أرادت إسرائيل ومؤسساتها السياسية والأمنية التخلص من دور عزمي بشارة عبر إلقائه في السجن لمدة طويلة جداً، لكن ها هو دوره يتسع ويتمدد على طول الوطن العربي الفسيح. وهو الذي يؤكد انه سوف يعود.
عزمي بشاره يعود اليهم عبر الاثير
لم يمرّ وقت قصير بعد المفاجأة، والشعور بثقل المؤامرة المتمثلة بنفي قائد عن البلد وإبعاده عن جمهوره، حتى عاد الناس يشعرون بأن عزمي بشارة لا يزال بينهم. وبقيت مساهمته المستمرة، الإعلامية، والفكرية والثقافية (الوطنية والنهضوية) وإنتاجه الفكري المستمر في اصعب الظروف التي مر بها، وحضوره الاعلامي متألقة تؤثر في النفوس والعقول. بل ويمكن الإستشفاف من حديث وملاحظات وتعليقات الكثيرين من أبناء شعبنا في الداخل أنهم يشعرون بمزيد من الفخر والإعتزاز بقائدهم ورمز حركتهم الوطنية يخرج من الغيتو الإسرائيلي وينطلق في عالمه العربي الذي يحب ومكانته تترسخ وعلاقاته تتوثق مع القوى الديمقراطية والقومية ومع عموم المثقفين والمناضلين العرب.
إن العربي الفلسطيني في الداخل، الذي حرم على مدار 60 عاما من امتداده العربي، وعاش في نار التناقض الدائم بين المواطنة الإسرائيلية المفروضة وبين انتمائه وهويته وتطلعاته القومية والإنسانية المشروعة يجد في علاقات بشارة العربية الوطنية والقومية وفي المكانة المرموقة التي وصل إليها بفعل نضاله الدؤوب ومساهماته الفكرية النوعية مصدراً للشحن العاطفي – القومي ومساهمة في الحفاظ على هوية عرب الداخل وغذاءً معرفياً غنياً عن الاحوال الراهنة.
إن عزمي بشارة، الذي انتخب بالإجماع رئيساً لدورة المؤتمر القومي العربي الـ19، يدخل هذه الحلبة وهو يحمل فضلاً عن إنتاجه الفكري مسيرته النضالية، تجربة تنظيمية – حزبية. أي تجربة ناجحة في تجميع القوى الوطنية والقومية وإقامة حزب قومي ديمقراطي داخل منطقة 48، استطاع أن يتحول خلال فترة قصيرة إلى حزب مركزي، ويعمم خطابه بصورة لم يسبقها مثيل على قواعد التيارات الأخرى أيضا ليس المؤتمر القومي العربي حزباً سياسياً، بل هو منظمة أو إطار يهدف في الأساس إلى تجذير الوعي القومي والقناعات بضرورة دحر التجزئة وإقامة الدولة العربية الحديثة الموحدة القائمة على المواطنة المتساوية وعلى الإقتصاد الحديث والتكامل. وقد ساهم هذا المؤتمر في مراحل الانحسار بشكل خاص بالحفاظ على صلة منتظمة بين عموم القوميين العرب ومثقفيهم ومناضليهم بحيث يجتمعون ويشخصون ويصدرون الموقف القومي ويحافظون على هذا الصوت. وهم دأبوا منذ تأسيسه على تطوير المشروع القومي بمعالمه النظرية مقابل التجزئة والقطرية ونهج الإستسلام للهيمنة الأجنبية.
ليس المؤتمر حركة جماهيرية ومؤثرة بصورة حقيقية على الساحة الجماهيرية في الوطن العربي. رغم أن غالبية جماهير الامة العربية قومية ووحدوية بالفطرة ولكنها غير منظمة في تيار. وليس هذا هدف المؤتمر. ولا تعتقد قيادة المؤتمر، أن الظروف نضجت للإنتقال إلى تشكيل حزب قومي عربي يوحد الأحزاب القومية ويؤطر الجماهير والناس الذين بغالبيتهم يطمحون بالفطرة وبالعقل إلى رؤية العرب موحدين. ومن المعروف أن عددا من الأقطار العربية فيها أكثر من حزب قومي وفي لبنان وحدها أربعة أحزاب وفي مصر كذلك، فلماذا لا تتوحد؟ كما ان العديد من أعضاء المؤتمر ينتمون الى أحزاب مركزية فاعلة.
هذا من بين ما يؤخذ على القوميين العرب وقياداتهم، بعد أن نجحت أوساط كثيرة منهم، وخاصة قيادات المؤتمر في قطع شوط كبير في إعادة صياغة معالم المشروع بعد مراجعة نقدية شاملة لتجربة الماضي، فهل يستفيد المؤتمر من تجربة عزمي بشارة في المسألة التنظيمية فضلاً عن مقدرته الفكرية. كما استعاد ونهل هو من التجربة القومية العربية بقصوراتها وانجازاتها. وهو الذي كتب في مؤلفه الأخير "في المسألة العربية": "إن الموضوع لا يمكن أن يحلّ عربياً من دون مشروع سياسي وطني، وأجندة ديمقراطية وطنية، ومن دون ديمقراطيين ينتظمون لطرح مشروعهم الديمقراطي وتصورهم لمستقبل كل بلد ولمستقبل البلدان العربية، اي أن البحث يؤكد ضرورة القيام بفعل سياسي وطني بدل التدخل الأجنبي".