من الطبيعي أن يشدد المستبد على استقرار نظامه، فمآل عدم الاستقرار تقويض النظام في النهاية، وحفظ الأمن وظيفته الأولى، فالناس، من منظوره، تعيش بأمن وأمان في ظله، والثمن هو تحملها الظلم والقهر لتجنب الفوضى والفتن.
وينطلق التفكير بالعدالة عملياً من البحث في هذه الموازنة بين نوعية حياة الناس في ظل الاستقرار، المتجسدة بشكل رئيسي في درجة سد الحاجات المادية والمعنوية (والحاجات متغيرة طبعاً) وطبيعة تعامل الحكام مع المحكومين، لتأمين هذا الاستقرار. إن هذا التفكير بالعدالة، خارج الطاعة المطلوبة لضمان الاستقرار، هو الفكر الهدّام بعينه في نظر الحكام.
وينسحب هذا على منظومات سياسيةٍ اجتماعيةٍ أخرى. فالاحتلال الأجنبي، مثلاً، يفترض ضمناً أن عموم الناس الواقعين تحت الاحتلال غير مهتمين بالتحرّر منه، ولا هم معنيون بالكرامة الوطنية، وحقوقهم السياسية كشعب. وإن أقصى ما يطمحون إليه قضاء العمر في السعي إلى تأمين معاشهم، وسد حاجاتهم وحاجات أسرهم؛ ويزعم الاحتلال، عادةً، أن قلة من "المخرّبين" و"مثيري الشغب" من الشعب الرازح تحت الاحتلال، هي التي تطرح أفكار التحرر والاستقلال الهدامة التي لا تخطر ببال عامة الناس. فهذه لو تركت على "طبيعتها" لن تشعر بالحاجة إلى الحرية أو الإحساس بالكرامة الوطنية.
ويقوم الاحتلال بتحريض الشعب ضد هذه "الحفنة من المخرّبين"، لأنهم يجلبون له الخراب والدمار، فكيف يقنع المستعمِر الأغلبية بذلك؟ إنه يتفنن في فرض عقوباتٍ جماعيةٍ على السكان، بعد كل فعل يقوم به المناضلون ضد الاحتلال. ويُجري تجارب فعلية، للتوصل إلى أنجع العقوبات الجماعية: اقتحامات لمنازل السكان الآمنين، هدم البيوت، الاعتقالات العشوائية، حظر التجول فترات طويلة. وهو يراهن على أن يتهم السكان المناضلين المطالبين بالحرية بجرّ هذه الويلات عليهم. فالاحتلال، كما يفترض بهم أن يفكروا بعد التنكيل بهم، لم ينغّص عليهم عيشهم قبل نشاط العناصر المعادية للاحتلال.
وقد ينجح الاستعمار في تعبئة عامة الناس ضد المناضلين من أجل الحرية، في مراحل محددة، لكنه لا يلبث أن ينجح في تعبئة الناس ضد الاحتلال نفسه، بسبب عشوائية عنفه، وتغلبها على قدرة الناس على الاحتمال. هذه معادلة دقيقة متعلقة، أيضاً، بوعي المناضلين ووعي الجمهور، وغيرها. وغالبا ما يستمر الناس في لوم الثوار، ولا سيما في المراحل التي ينجح فيها الاستعمار في قمع الثورة، ولو مؤقتاً. واللازمة المتكررة في هذه الحالة: "كانت الأحوال بخير نسبياً، قياساً بما آلت إليه الأمور، بعدما قام بعضهم على الاحتلال". لا تتكرر هذه اللازمة تنفيساً عن الغضب فحسب، فالطبيعي أن يغضب المتضرّر ضد المسبب المباشر للأذى، ألا وهو قوات الاحتلال مثلا؛ بل كنتيجة لغسيل الدماغ الذي تعرض له ولبرمجته بواسطة استراتيجية بدائية، هي تدريبه المتواصل على قلب السبب والنتيجة، وأثبتت التجارب أن هذه المعادلة لا تنجح على المدى البعيد.
تجلى القاسم المشترك الأعظم للثورات العربية في سلميتها ومدنيتها، ومطالبتها بوقف الفساد وعنف أجهزة الأمن، وبالحرية والعدالة الاجتماعية، وفي أنها انطلقت غالبا بعفوية، أي بدون تخطيط حزبي مسبق، وهي، بالتالي، لم تحمل إلى الحكم قوى سياسية بعينها. وكان بإمكان الأنظمة التي واجهت هذه الانتفاضات أن تقوم بإصلاحات جذرية، أو أن يغادر قادتها غير القادرين على الإصلاح. وفيما عدا حالة تونس، رفضت الأنظمة العربية التسليم بالتغيير، سواء في الحالات التي تنحى فيها القادة، أم عندما لم يتنحوا. ففي الحالتين، لجأ النظام القديم إلى القوة. وشُنَّت حرب حقيقية على الثورة في حالتي ليبيا وسورية، ونظم انقلاب على عملية التحول الديمقراطي في حالتي اليمن ومصر. وفي ليبيا وسورية، تحولت حرب النظام على الشعب إلى ما يشبه الحرب الأهلية. وفي مصر، اتخذت الثورة المضادة شكل انقلاب عسكري. أما في اليمن، فالثورة المضادة اتخذت أيضا شكل انقلاب عسكري، ولكن تواطؤه مع الطائفية السياسية واعتماده عليها، قلبه إلى حرب أهلية.
ورافقت هذه الثورات المضادة والاحتراب الأهلي الذي تسببت به، جرياً وراء وهم استعادة النظام القديم، حملةٌ إعلاميةٌ مركزة، تتلخص بأن سبب الفوضى هو رفض الظلم، وليس الظلم نفسه. وبحسب هذه الحملة الإعلامية، فإن المسؤول عما يجري حالياً في دول الثورات العربية ليس هشاشة الدول نفسها، ولا طبيعة الأنظمة التي حكمتها عقوداً طويلة، ولا حتى القمع الدموي الذي يقوم به المنقلبون على الثورات المدنية، بغرض تقويض عملية التحول الديمقراطي، بل السبب فقدان الناس القدرة على تحمل التعسف في استخدام عنف الدولة وأجهزتها، وقمع الحريات المدنية والحقوق السياسية، وتطلّعهم إلى نظام بديل، يكفل حقوقهم وكرامتهم. فمن واجب الرعية، بموجب هذه الاستراتيجية الإعلامية، استئصال الحرية والكرامة من النفوس، وتحمل الفساد والاستبداد، فإما هذه أو الفوضى.
صحيفة العربي الجديد